تشغل الراديو لتسمع نشرة الأخبار الصباحية فأول ما تطرق أذنيك لفظة الإرهاب يضرب في تونس والكويت وفرنسا... تذهب إلى مكان عملك فتلقي نظرة سريعة على عناوين الصحف الصادرة صبيحة هذا اليوم فتقرأ العنوان نفسه بصيغ عدة تفنن أصحابها في تضخيم "فزاعة الإرهاب"، ومنها: إرهاب داعش (تنظيم الدولة) يلف المشرق والمغرب، ومشهد دموي عابر للقارات، والإرهاب يضرب في أفريقيا وأوروبا وآسيا ...الخ
فتدور أسئلة في رأسك: ما الذي يجري؟ وما حقيقة هذه الأخبار؟ طبعا ليست هذه المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقد سبق أن صرح الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك قائلا: (من كان يظن أنا خرجنا لقتال طالبان في أفغانستان انتقاما لأحداث 11 سبتمبر فليصحح خطأه، نحن خرجنا لقضيه اسمها (الإسلام) لا نريد أن يكون الإسلام مشروعا حرا يقرر فيه المسلمون ما هو الإسلام بل نحن من يقرر لهم ما يكون الإسلام)... فالقضية إذن هي الإسلام، أو بالأحرى منع عودة الإسلام إلى الحياة، أي منع عودة دولة الخلافة الإسلامية التي تطبق أحكام الإسلام في الداخل وتحمل الدعوة إليه في الخارج، فتنهي العهد الاستعماري للغرب الرأسمالي، وتفضح عوار الحضارة الرأسمالية المتوحشة التي لا ترحم أهلها فضلا عن شعوب البلاد المستعمرة، وما يجري في اليونان هو أبلغ دليل. فاليونان هو عضو في "عائلة الاتحاد الأوروبي"، بل اليونان طالما اعتبرت مهد الثقافة الغربية والفلسفة اليونانية اعتبرت دوما ركيزة الفكر الفلسفي في الغرب... ومع هذا كله فإن أصحاب الرساميل لا يقيمون وزنا لغير جشعهم وطمعهم في مص دماء الشعوب ليس فقط في "الخارج" بل حتى في الداخل.
فما يجري اليوم من أحداث متفجرة تسفك فيها الدماء في بلاد الشام والعراق وتضرب فيها المفخخات والهجمات الانتحارية المساجد ودور العبادة شرقا وغربا، وما تزخر به الأنباء من مشاهد مروعة من القتل والسحل والإعدام بصور تتحدى الخيال الإنساني، كل هذا ما هو إلا الوجه الآخر للحملات التي يديرها قادة الغرب للوصول إلى نتيجة واحدة: أن على المسلمين الخنوع للاستعمار الغربي عبر الخضوع لجزم عملائه الحكام، الذين عكس بشار الأسد سياستهم في مقابلة مع تليفزيون الإخبارية السورية بقوله "إن لم ننتصر، فسوريا ستنتهي"...
وللغرب، وعلى رأسه أمريكا، سجل طويل في "اختراع الإرهاب" وتصنيفه، فهناك "الإرهابيون الطيبون" حين يتعلق الأمر بارتكاب جرائم القتل والسحل والترويع متى خدمت مصالح الدول الغربية، ومن يتمرد على السيطرة الغربية يتم "شيطنته" ليل نهار تحت الأضواء الساطعة لعشرات ومئات الفضائيات ووسائل الإعلام التي تتفنن في قصف عقول العامة بالصور والأخبار لصياغة "العقل الجمعي" الذي يرى في الإسلام خطرا بربريا يهدد العالم المتحضر... بل وصل الأمر علانية بالساسة الأمريكان والغربيين أن ينادوا بأن غض النظر عن جرائم بشار الأسد هو أمر مبرر في مواجهة الخطر المزعوم لتنظيم الدولة والحركات التكفيرية... وكما قال الشاعر:
قتل امرئٍ في غابةٍ * جريمةٌ لا تُغتَفر
وقتل شعبٍ آمنٍ * مسأَلةٌ فيها نظر
والحقُّ للقوَّةِ لا * يعطاهُ إلاَّ مَن ظفر
ففي مواجهة إصرار الثورة في سوريا على الانعتاق من الهيمنة الأمريكية فإن شن عصابة الأسد الهجوم بالكيماوي على المدنيين، وضربهم بآلاف البراميل المتفجرة (11000 برميل متفجر خلال الثمانية أشهر الماضية) فهذا كله لا شيء!
ولكن قبل أن يقع الخلط في الفهم، هل يعني ما سبق تبرير التفجيرات التي وقعت في مساجد المسلمين الشيعة في الكويت والسعودية؟ أو قتل عشرات من السياح الأجانب في سوسة تونس؟
على العكس، فما أريد قوله هو أن هذه الأعمال تأتي في سياق "عسكرة" الصراع. فالكل يعرف ما صرح به فاروق الشرع إلى جريدة الأخبار اللبنانية (16/12/2012) حيث قال: "في بداية الأحداث كانت السلطة تتوسل رؤية مسلح واحد أو قناص على أسطح أحد البنايات، الآن السلطة وبكل أذرعتها تشكو حتى إلى مجلس الأمن الدولي كثرة المجموعات المسلحة التي يصعب إحصاؤها ورصدها". أما عن هجوم سوسة الذي قام به رقاص (البريك دانس) - قبل أن يتحول إلى "جهادي تكفيري" فلا يمكن تبريره في الشريعة الإسلامية، كما لا يمكن تبرير ولا قبول الهجوم على دور العبادة سواء أكانت للمسلمين الشيعة أم السنة أم لغير المسلمين، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله e عن قتل النساء والصبيان»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيeكان إذا بعث جيوشه قال: «لا تقتلوا أصحاب الصوامع».
وهكذا فلا صوت يعلو فوق صوت "مواجهة الإرهاب"، وتحت هذا الشعار تستباح الدماء وتنتهك الأعراض وتقمع الشعوب، ويتم غض النظر عن جرائم التعذيب في سجون المخابرات والأجهزة الأمنية في بلاد المسلمين حيث تتعاون الأجهزة الأمنية مع أجهزة المخابرات الغربية في فنون التعذيب في التحقيق مع "المتطرفين" لانتزاع الاعترافات منهم، ولم تستح هيلاري كلينتون وزيرة خارجية أمريكا في حينه من توبيخ الساسة الأوروبيين الذين زعموا براءتهم من فضيحة برنامج التعذيب الذي أدارته ال سي آي إيه بقولها أن البرنامج ساهم في الدفاع عن أمن أوروبا.
فهذه الأعمال تفيد العصبة الحاكمة في تونس، التي يقودها السبسي شريك بورقيبة في فرض النظام العلماني المستورد من المستعمر الفرنسي، تفيدها في التهرب من مسؤولياتها في توفير الأمن للبلاد والعباد، كما تفيدها في التهرب من فضائح الفساد التي أزكمت الأنوف في الصفقات المشبوهة. ورفع شعار مكافحة الإرهاب تعفي السيسي في مصر من المحاسبة على ما ارتكبه جلاوزته من جرائم في ميادين مصر، بينما عصابة مبارك تُبرّأ في مهازل المحاكم.
ومع هذا كله فلا عودة إلى الوراء... لقد سبق لنا أن قلنا مرارا وتكرارا منذ انطلاقة شرارة الربيع العربي أن التغيير الجذري لم يتم لا في مصر ولا في ليبيا ولا في تونس ولا في اليمن... ودعوْنا العامة والخاصة إلى العمل للتغيير الجذري بإنهاء كل أثر للمستعمِر الغربي ولنفوذه في ميادين الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة، وهذا كله لا سبيل له إلا باحتضان مشروع الإسلام الحضاري الذي ينبع من العقيدة الإسلامية التي تجمع شمل المسلمين شرقا وغربا دون تمييز لقومية ولا لعرق ولا لمذهب ولا لوطنية؛ فكل هذه هي من دعاوى الجاهلية التي يأمر الإسلام بهدمها ونقضها وإزالتها، والاعتصام بحبل الله المتين القاضي بأن المسلم أخو المسلم، وأن لا إكراه في الدين، فالإسلام يصون دماء الناس، مسلمين وغير مسلمين، وأموالهم وأعراضهم، ودولة الإسلام، الخلافة الراشدة على منهاج النبوة هي الكفيلة بوضع حد لمطامع الاستعمار وتحرير البشرية من رجس الحضارة الرأسمالية العفنة.
وهكذا فالأمة اليوم على مفترق طرق واضح، فخيارها الرشيد هو طلب مرضاة الله بالاعتصام بحبله والعمل لتطبيق شرعه الذي لا يتم إلا بإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تجمع شمل المسلمين، أما الخيار الآخر ، أي اتباع نهج العلمانية و ما بني عليها من دولة "وطنية" خرجت من رحم سايكس بيكو على أنقاض دولة الخلافة، فهذا قد سقط وولى، مهما حاول الغرب من النفخ فيه.. ويكمن الخطر الداهم في اتباع نهج الفهم الخاطئ للإسلام: ذاك الذي يزعم أن هناك ديمقراطية إسلامية (كمن يزعم أن هناك خمرة اسلامية او لحم خنزير حلال) أو نهج استحلال دماء المسلمين وغير المسلمين، تلك الدماء التي صانها شرع الله، تحت دعاوى مغلوطة لا تقوم لها حجة ولا برهان. ونحن لا نشك لحظة واحدة في وعد الله الحق (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) وعسى أن يكون قريبا.
* مدير المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع