"هذه العملية ليست الأولى من نوعها، وربما ليست الأخيرة، ورغم أن الجندي المصري ربما تصرف بمفرده، فإن الدرس الأول المستخلص من هذه الحادثة غير العادية، أن وجود اتفاقيات سلام لا يعني تراجع العداء تجاهنا، لا في مصر ولا أي مكان آخر، وهذا يعلمنا أننا لا نستطيع أن نكتفي بما حققناه، حتى عندما يكون هناك إطار اتفاق يعمل على استقرار البيئة الاستراتيجية، بعبارة أخرى، أنه لن يتم ضمان أمن (إسرائيل) إلا من خلال قوتها الأمنية، وليس الاتفاقات السياسية"، هكذا علق أريئيل كهانا المحلل السياسي لصحيفة "إسرائيل اليوم" على عملية العوجا، وما تحدث به يعبر بإيجاز عن مدى الإحباط واليأس عند كيان يهود وسياسييه من بقاء التطبيع ضمن دائرة الأنظمة وعدم نجاحه في النفاذ للشعوب والجيوش، وأن هذا الشعور يولد عندهم إحساساً شديداً بالخطر خاصة عند حصول تحركات عسكرية ولو كانت فردية كما هو حال عملية الشهيد محمد صلاح.
لقد جاءت هذه العملية البطولية لتنغص أحلام السلام عند كيان يهود وتوقظ عنده كوابيس الأمة وجيوشها التي تحيط به وتعزز توجسه من الوجود المتزايد لجيش مصر في سيناء خاصة من سياسيين حريصين كل الحرص على كيان يهود ومنهم ديفيد شينكر مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى - الذراع الفكري والبحثي للجنة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) - الذي صرح العام الماضي أن التعاون العسكري غير المسبوق بين القاهرة وتل أبيب في سيناء، والذي شمل دعماً جوياً من كيان يهود للعمليات المصرية، جعل كيان يهود يسمح بدخول قوات عسكرية مصرية مسلحة في سيناء وأن هذا يمثل خطراً، وقد استشهد على كلامه بالتغيير غير المتوقع في مصر عام 2011 أثناء الربيع العربي، وأن ذلك الحدث ما زال يمثل هاجساً كبيراً في أوساط اللوبي الصهيوني في أمريكا، والذي فشل بالتنبؤ به في حينه رغم تكريسه لإمكانات هائلة لمراقبة الأوضاع في المنطقة العربية وفي مصر على وجه الخصوص لأنها تتمتع بأكبر عدد سكان وأكبر قوة عسكرية في المنطقة.
وهكذا ظهر كيان يهود في وضع مأزوم وغاضب من تفاعل أهل مصر مدنيين وعسكريين مع ما قام به محمد صلاح رحمه الله واعتبار عملية العوجا بطولة وعملاً مشرفاً وجهاداً، دفاعاً عن فلسطين وأهلها ومسرى النبي ﷺ، وقد حاول النظام المصري تهدئة كيان يهود والتقليل من حجم الصدمة بسرد روايات تأخذ الحدث باتجاه الناحية الجنائية وسوء التقدير، ومن ذلك الادعاء بمطاردة الجندي لمهربي مخدرات عبروا الحدود ومن ثم التراجع عن هذه الرواية واتصال السيسي بنتنياهو لتقديم التعزية وفتح تحقيق مشترك، وقد كان ظاهراً على النظام المصري التخبط، فالرأي العام عند الناس والعسكر كاسح في تأييد ما قام به محمد صلاح واعتباره بطلاً ووصف فعله بالبطولة، وبالتالي لا مجال لاعتباره إرهابياً أو خارجاً عن الصف الوطني، وفي الوقت ذاته أصبح النظام محرجاً أمام كيان يهود المرتبط معه بعملية سلام، فكان المخرج بسرد روايات تبعد العمل عن بعده السياسي والعقدي وتقديم التعازي لكيان يهود واستلام الجثمان ودفنه بشكل سريع وسري وتشكيل لجنة تحقيق مشترك.
إن هذه القراءة السياسية للحدث وتبعاته وخاصة تفاعل الناس والعسكر معه برزت بشكل كبير وطغت على لطيم كيان يهود ونعيه قتلاه وعلى محاولة تشويه النظام المصري للحقيقة، وهذا انعكس على تصريحات يهود التي أقرت بأنه لن يتم ضمان أمن كيانهم إلا من خلال قوته الأمنية وليس الاتفاقات السياسية، وهذا بحد ذاته جرهم إلى الفضيحة العسكرية.
فبينما انشغل الرأي العام عندهم متسائلا بماذا كان منشغلا الجندي والمجندة عندما تم قتلهما وكيف يتم وضعهما لوحدهما في كوخ صغير لمدة 12 ساعة مناوبة؟ وهل كانا في علاقة جنسية أو مهمة عسكرية؟ وهو ما دفع وزير الحرب يواف غالانت ليخرج ويبرر ويصرح أن هناك تشكيلات كاملة في الجيش تؤدي فيها النساء دوراً مركزياً في مجال حماية الحدود، وأنه فخور جداً بالمقاتلات في الجيش وما يقمن به، كانت على الجانب الآخر التفاصيل تتوالى وتتضح عن ذلك البطل محمد صلاح كيف مشى مسافة خمسة كيلومترات من موقعه داخل الحدود المصرية ومن ثم تسلق أحد المرتفعات الصخرية ووصل إلى السياج وقام بقطع القفل الذي تغلق به فتحة السياج بواسطة معدات قطع عسكرية ودخل إلى الجانب الآخر من الحدود واقترب من موقع الجنود الذي يبعد حوالي 150 متراً عن باب الطوارئ في السياج وفتح النار عليهم، ومن ثم نصب كميناً جديداً للجنود على عمق كيلو ونصف داخل الحدود خلف صخور كبيرة في المنطقة، وحين وصلت الوحدة التابعة للاحتلال اشتبك معهم، فقتل ضابطاً وأصاب آخر ومن ثم استشهد خلال الاشتباك.
لقد أيقظ محمد صلاح رحمه الله بدوسه لحدود سايكس بيكو وتجاوزه للإطار الوطني الاستعماري ودخوله للأرض المباركة لقتال يهود وقتلهم ليس لدافع وطني متعلق بمصر وإنما لدافع ديني وعقدي وهو الأرض المباركة فلسطين والمسجد الأقصى، لقد أيقظ بفعله الشجاع هذا كابوس كيان يهود وهو مصر وجيشها، وكشف عن ترهل وضعف عسكري عند كيان يهود المصاب بلعنة الذل والحرص على الحياة، وعقدة الخسائر البشرية جعلت من ثلاثة قتلى أزمة سياسية وعسكرية قد تطيح بقادة كبار من المؤسسة العسكرية، وكشف عن حدود قريبة مفتوحة وكتائب غارقة في اللهو والجنس وجيش لا يستطيع الصمود أمام الجيش الثاني أو الثالث من جيش مصر فكيف به مجتمعاً!
وفي الختام إن هذا العمل الفردي البطل كشف عن شعور جماعي سليم ونقي تجاه فلسطين وأهلها، ولكنه غير كاف ولا يبرئ الذمة عند الله من جيش قوي يحتل المرتبة الـ13 بين أقوى جيوش العالم، إلا إن تحول من شعور جماعي إلى عمل جماعي ونفير وإعلان للجهاد لتحرير فلسطين، وهذا يتطلب تجاوز النظام الخائن وتسليم القيادة والقرار لجهة سياسية مخلصة وواعية تنقذ مصر وأهلها من الفقر والجوع والضياع والذل وتنهض بهم بأحكام الإسلام ونظامه ودستوره النقي الشامل وتنقذ فلسطين وأهلها من القهر والظلم بعين جالوت جديدة، وهذه الجهة السياسية المخلصة والواعية والتي تمتلك المشروع الكامل والمفصل باتت محصورة في حزب التحرير بعد أن نجحت الأنظمة في احتواء القيادات السياسية وجعلها تقبل بالتعايش مع الأنظمة حتى باتت جزءاً منها ومن وسطها السياسي.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع