"إن قرار تعليق التمويل المُقدّم للوكالة من كبار المانحين يشكل ضربة قاضية لجهودها... إن وكالة الأونروا تعتمد بشكل كلي على تبرعات المانحين... لا يمكن إلغاء وكالة الأونروا بجرة قلم، وقرار وقف الدعم المالي مؤقتاً قد يودي بحياة الملايين"، هكذا عبر المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، كاظم أبو خلف، على القرارات السريعة والمتتالية لوقف التمويل للأونروا من عدد من الدول الداعمة ومنها الولايات المتحدة، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وأستراليا، وفرنسا، والنمسا، وسويسرا، وفنلندا، وكندا، ورومانيا، وهولندا، وهي بمجموعها تقدم ما يقرب من 90% من ميزانية الوكالة، وهو ما أحدث ضجة إعلامية في ظل الوضع المأساوي في قطاع غزة وحرب الإبادة الحاصلة، بشكل دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى مناشدة الدول المانحة لضمان استمرارية عمليات وكالة الأونروا، فما حقيقة هذا القرار؟ وما هي انعكاساته الإنسانية؟ وما هي علاقته السياسية بما يحصل في قطاع غزة والهدف منه؟
الأونروا هي منظمة تتبع للأمم المتحدة، تم تأسيسها بموجب القرار رقم 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949، وذلك بهدف تقديم برامج الإغاثة المباشرة والتشغيل للاجئين الفلسطينيين، وبدأت الوكالة عملها عام 1950، ويتم تمويل الأونروا بشكل كامل تقريباً من خلال التبرعات الطوعية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، فهي إذاً منظمة أممية أنشئت لمعالجة أزمة إنسانية، ولكن أزمة لم يكن سببها كوارث طبيعية من زلازل وفيضانات وغيرها، وإنما أزمة سببها مشروع سياسي عسكري استراتيجي للغرب، وهو إنشاء كيان يهود على معظم فلسطين بإخراج دموي تطلّب القتل والحرق والتدمير والتهجير وذلك بدعم مباشر من الدول الكبرى وعلى رأسها بريطانيا وأمريكا وبغطاء من الأمم المتحدة التي كان دورها إضفاء الشرعية على الكيان ومعالجة الآثار التي نتجت عن إنشائه، ومن ذلك منظمة الأونروا.
وقد كانت هذه المنظمة مسؤولة عما يقارب 750 ألف شخص هجروا من أراضيهم وبيوتهم ومدنهم وبساتينهم، وكان من بينهم الثري وصاحب الأملاك والأرض، وأطلق عليهم مصطلح "لاجئ"، وقد ربط هذا الملف لطبيعته وخلفيته السياسية بالمشاريع السياسية التي كان الغرب على قناعة تامة بضرورة تنفيذها لدمج كيان يهود في المنطقة ومعالجة الآثار التي نتجت عن إيجاده، ومنها أزمة اللاجئين، فكان مشروع الدولة الواحدة البريطاني، ومن ثم مشروع الدولتين الأمريكي الذي كان أقل قلقاً في التعامل مع هذا الملف لتجاوزه الخطر الديمغرافي على اليهود وذلك بعودة اللاجئين إلى دولتهم الفلسطينية المفصولة عن كيان يهود فيبقى اليهود أغلبية في دولتهم، على عكس مشروع الدولة الواحدة، ولكن بعد ما حصل عام 1967 وتعقد المشهد، ومن ثم تعثر مشاريع السلام ومراوغة كيان يهود وتعطيله للمشروع أصبح هذا الملف عالقاً في أروقة الأونروا ينتظر الحل السياسي للقضية حتى أصبحت المنظمة مسؤولة الآن عن 6 ملايين لاجئ منهم أكثر من مليون وسبعمائة ألف في قطاع غزة لوحدها، وهو ما يشكل 75% من نسبة سكان القطاع.
ولطالما ضغط كيان يهود بخصوص هذا الملف خاصة فيما يتعلق بعودة من هم خارج فلسطين خاصة في الأردن ولبنان وسوريا، وفي المقابل كانت منظمة التحرير تسير في هذا الملف على النهج الذي اتبعته بالنسبة للأرض؛ تنازل وتفريط إرضاءً لكيان يهود وطمعاً في سلام موهوم لم يتحقق، وفي المقابل كانت هذه المأساة تكبر وتكبر وتحولت المخيمات إلى مخيمات في مخيمات، والناس مكدسة فوق بعضها، مدن بشرية تعيش فيها مباني سكنية كما نشاهد في مخيمات قطاع غزة حيث الغارة تقتل العشرات بل المئات أحياناً، وأصبحت الوكالة تمثل شريان حياة للناس يقتاتون على فتاتها مجبرين، فقد حرم اللاجئون في بلاد العرب من كل شيء ومنعوا من التملك وضُيق عليهم في العمل والتعليم وكل شيء، وتم تحويل حياتهم إلى جحيم، وكذلك في غزة والضفة تكدسوا فوق بعضهم لضيق المساحات وغلاء المعيشة والأرض والسكن، وأصبحت الأونروا بما تقدمه من مساعدات في مجال الغذاء والصحة والتعليم والعمل جزءاً من حياتهم.
ولكن يبدو أن الغرب عزم مجدداً على إدخال هذا الملف في مسار جديد يقوم على حله وتذويبه، وقد كان ترامب قد أوقف في عام 2018 دعم أمريكا للأونروا، والذي يمثل ثلث ميزانيتها، وطالب بإعادة تعريف اللاجئ وأن الأبناء والأحفاد ليسوا لاجئين، وأن الحل يكون بالدمج والتجنيس في مكان إقامتهم أو دول أخرى، وتقديم تعويضات مالية للدول والأفراد، ولكن ذهاب ترامب وصفقته ومجيء بايدن أعاد الدعم للأونروا حتى جاءت حرب غزة المستمرة واتهامات كيان يهود لـ12 موظفاً في الوكالة بالمشاركة في هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 واتخاذه ذلك فرصة لتنفيذ رؤيته التي يروج لها منذ عقود والقائمة على حل الوكالة التي ببقائها يزداد عدد اللاجئين، وحل هذا الملف بعيداً عن حق العودة ومن خلال مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة التي تقوم سياستها على حل المشكلة من خلال التجنيس والدمج، وفي المقابل وجدت أمريكا وأوروبا الظرف مواتياً لإنهاء هذا الملف تدريجياً بالتزامن مع مساعٍ لإنقاذ مشروع الدولتين ولكن بصيغة تبدد مخاوف كيان يهود، ومنها الخطر الديمغرافي وحق العودة، وفي الوقت ذاته تنذره أن تعطيل المشروع من خلال فرض السيطرة العسكرية على قطاع غزة وعدم تسليمها للسلطة يعني أنك سوف تكون المسؤول عن الناس هناك، وكيان يهود في المقابل يراهن على التهجير القسري أو الطوعي للسكان، وهكذا لكل طرف حساباته السياسية الخاصة، والضحية هم الناس الذين يعانون من الجوع والبرد والأمراض بل والمجاعة كما هو حاصل في القطاع!
وفي الختام إن هذا القرار وفي هذا التوقيت يظهر أن تلك الدول كاذبة فيما تتذرع به لوقف عمل الوكالة، وهي مشاركة في الفتك بأهل فلسطين ووقحة عندما تقرر التخلي عن الناس بحجة 12 موظفاً من بين 30 ألفاً يعملون في الوكالة، وإن هذا هو منطق الاستعمار والدول الكبرى المجرمة، أما الحل فليس كما كان ينص مشروع الدولتين بإعادة توطين جزء منهم وإعادة جزء وتعويض جزء، وليس بتعريف من هو اللاجئ، وليس باستخدامهم الآن ورقة سياسية متعلقة بالحرب، ليس الحل في كل ذلك بل بتحرير هذه الأرض المباركة وإعادة أصحاب الأرض إلى أرضهم رافعين الرأس معززين مكرمين لا يتسولون كيس طحين وحبة دواء!
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع