لقد شكل مفهوم النفعية أو المنفعة المادية عند الدول القومية التي تتبنى المبدأ الرأسمالي دافعاً قوياً إلى التوسع الاستعماري في العالم حتى برز الاستعمار كطريقة للمبدأ الغربي القائم على المنفعة في نشر نفسه، فكما أن الفرد الغربي تحركه حاجاته ورغباته الفردية فكذلك الدول تحركها حاجاتها ومصالحها الوطنية، وقد استعمرت الدول الكبرى العالم بأساليب مباشرة وغير مباشرة - أنظمة حكم وطبقة حاكمة تابعة لها - والهدف من ذلك نهب ثروات ومقدرات تلك الدول، وكان لبلاد المسلمين بعد سقوط دولة الخلافة النصيب الأكبر من ذلك الاستعمار الذي أضاف إلى الأسباب المادية المتعلقة ببلاد المسلمين وما فيها من خيرات وثروات وما تمتلكه من موقع استراتيجي مهم، أضاف سبباً آخر مهماً، وهو الإسلام الذي يمثل عقيدة ينبثق عنها نظام يوجب طرد الاستعمار وإسقاط المبدأ الرأسمالي ودوله واستبدال مبدأ الإسلام به، ونشره للعالم بطريقة الهدف منها حمل الخير وليس الاستعمار.
هذه مقدمة بسيطة عن الاستعمار الذي تعاني منه البشرية بشكل عام وبلاد المسلمين بشكل خاص وفلسطين جزء منها، فقد أراد الغرب من خلال إنشاء كيان يهود تحقيق أهداف عدة على رأسها إيجاد قاعدة عسكرية وبشرية في المنطقة تحول دون وحدتها وتحررها وطرد المستعمرين منها، والغرب ينظر بأهمية كبرى لهذه القاعدة الاستعمارية، وقد أشار بايدن إلى ذلك مراراً وتكراراً في الآونة الأخيرة، فقال "لو لم تكن (إسرائيل) موجودة لعملنا على إيجادها"، أما نتنياهو فذكر الغرب في حرب غزة بأنهم خط دفاع متقدم عن نفوذهم فقال: "نحن لا نخوض حربنا فقط، بل نخوض حرب جميع الدول المتحضرة" ويقصد الدول الغربية العلمانية في مواجهة المسلمين.
وبالتالي يكون المقصود بتحرير فلسطين ضمن ما ذكر أعلاه هو إنهاء وجود هذا الكيان في المنطقة والقضاء عليه، والذي دفعنا إلى هذا الشرح أن النظرة الوطنية المشوهة لتحرير فلسطين أو النظرة الغربية القائمة على إنهاء الصراع لصالح يهود تُعرِّف وتروِّج للتحرير على أنه طرد كيان يهود من جزء من أرض فلسطين - المناطق التي احتلت عام 1967 - وإقامة دولة فلسطينية على ذلك الجزء، فهذا التعريف للتحرير الذي يروج له الإعلام العالمي وتطالب به كل دول العالم والشعوب الغربية التي تتعاطف مع أهل فلسطين هو في حقيقته ليس تحريرا وإنما تكريس للاستعمار وتأمين الحماية لقاعدة خبيثة في قلب الأمة الإسلامية.
وبما أن التحرير هو القضاء على هذا الكيان وإنهاء وجوده إذاً الحديث محصور في التحرك العسكري وخيار الحرب، فلا يتصور أن يفكك الغرب قاعدته سلمياً، ولا يتصور أن يفكك يهود دولتهم دون حرب، ولا وجود للمشاريع أو المبادرات السياسية أو المفاوضات أو القرارات الدولية في مفهوم التحرير الصحيح، بل هي على الطرف الآخر، وهو تكريس وجود كيان يهود وليس إنهاء وجوده، وهي كما بينا تهدف لإنهاء الصراع فقط وهذا مختلف عن إنهاء الاستعمار، فإنهاء الصراع قد يتضمن إنهاء الاستعمار أو تكريسه!
والجهة التي تمتلك القدرة على تحرك عسكري بمستوى القضاء على كيان يمتلك مقدرات دولة في المقاييس العسكرية ومغطى من الدول الكبرى سياسياً وعسكرياً طبيعي أن تكون دولة بجيش وقوة كما هو الحال في معظم دول العالم، وإن كان بأشكال متفاوتة، والحديث هنا عن فلسطين أرض الإسلام ومعراج النبي ﷺ ومسراه، والجهة المسؤولة عن تحريرها هي الدول الحاكمة في بلاد المسلمين وبشكل خاص دول الطوق وفي مقدمتها الأردن ومصر.
ولكن الذي يحول بين الأمة الإسلامية وتحرير فلسطين هي نظرة تلك الأنظمة - التي تمتلك القرار والقدرة في ظل جيوش قوية ورأي عام داعم ومطالِب بالتحرك لتحرير فلسطين -، نظرتها لمفهوم التحرير من منظار وطني غربي يحصره في إطار الحل السياسي المتمثل بمشروع الدولتين أو الحل العسكري لفرض ذلك المشروع بالقوة رغم أن هذا الخيار العسكري المحدود لم يكن يوماً مطروح لخطورته على وجود كيان يهود وصعوبة ضبطه، إضافة إلى أن الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين تفتقد للقرار الذاتي في السياسة الخارجية فهي دول عميلة تخضع بالكامل لتوجيهات الغرب وخاصة أمريكا في التعامل مع قضية فلسطين التي تعتبر ضمن السياسة الخارجية لتلك الدول، وذلك رغم أنها قادرة على الانفكاك من الغرب في ظل شعوب مستعدة للدفاع عنها بكل قوة إن اختارت قرار الحرب لتحرير فلسطين، وجيوش قادرة على تحقيق إنجازات عسكرية ترفع من شأن الأمة وليس الدول القطرية فقط، ولكن تلك الأنظمة وأوساطها السياسية أظهرت للأمة على مدار عقود وخاصة في ظل الإبادة الحاصلة حالياً في قطاع غزة ورغم قساوة المشهد وحجم الدماء وكثرة الصراخ والاستنصار، أظهرت أنها ملتزمة التزاما حديديا بالقيام بدورها الوظيفي وهو تطبيق النظم الرأسمالية العلمانية في بلاد المسلمين وحماية الغرب ومصالحه الاستعمارية ومنها وجود كيان يهود والعمل على تأمينه بشكل أكبر من خلال التحرك بكل الأساليب والوسائل للضغط عليه وإغرائه بإنهاء الصراع وفق مشروع الدولتين، وبالتالي أصبح من نافلة القول إن فلسطين لن تحرر قبل أن يحرر محيطها!
وتحرير المحيط يكون بإسقاط تلك الأنظمة وتنحية تلك القيادة التي تمتلك القرار السياسي والعسكري ومن ثم تسليم القرار لقيادة سياسية واعية وقيادة عسكرية مخلصة تنظر للتحرير على أنه القضاء على كيان يهود واستعادة فلسطين كاملة وأن الطريقة تكون بالحرب والتحرك العسكري للجيش. وعملية إسقاط الأنظمة العميلة التي تمثل الاستعمار غير المباشر في بلادنا بشكل يفضي إلى تحرير فلسطين له تصوران:
إما أن يكون من خلال عمل سياسي منظم كما نفعل في حزب التحرير، حيث نعمل منذ عقود مع الأمة التي تتشوق للإسلام فنبين لها حقيقة الإسلام كنظام حياة وطريقة عيش ومبدأ عالمي، وأن الطريقة للعيش في ظل أحكامه هي إقامة دولة الخلافة، ونعمل مع الجيوش لأخذ النصرة منها للقيام بعملية إسقاط النظام بوسطه السياسي ودستوره الغربي وإقامة دولة الخلافة الراشدة، وفي هذه الحال يوضع ملف قضية فلسطين على الطاولة وتتخذ الدولة كل ما يلزم لتحريرها.
أو من خلال تحرك الأمة على مستوى الرأي العام والمؤسسة العسكرية لانتزاع قرار الحرب وتسليمه لقيادة مخلصة تعلن النفير لتحرير فلسطين، ولو كان في ظل النظم الحالية الحاكمة وقبل قيام دولة الخلافة، وهذا وإن كان صعب التصور في ظل أنظمة بوليسية دكتاتورية قائمة على أنظمة تجسسية وقوى أمن داخلي ورقابة عسكرية كبيرة، ولكن هذا لا يعفي الأمة وجيوشها من وجوب بذل الجهد والتحرك الفوري والعاجل، فالحكم الشرعي وهو نصرة أهل فلسطين والتحرك لتحرير الأرض المباركة لا يشترط فيه شرعاً أن تكون دولة الخلافة قائمة بل قد تكون ثمرة لذلك التحرك والخطوة التالية إن حصل، وما يحصل اليوم من مجازر وحالة الغليان في الأمة وإمعان الأنظمة في خيانتها تجعل هذا التصور محل تخوف عند الأنظمة والغرب قد يترجم على الأرض بتمرد عسكري مدعوم من الرأي العام تقوده قيادة مستقلة غير عميلة تنقل الدولة من حالة العمالة إلى الاستقلال وتتخذ قرار التحرك لنصرة أهل فلسطين وتحريرها وتمثل لنا فرصة لمخاطبتها بتتويج هذا التحرك المبارك بإقامة دولة الخلافة.
وفي الختام نسأل الله أن يهيّئ لأهل غزة وأهل فلسطين من ينتصر لهم ولحرماتهم ويتحرك لإنقاذهم والقضاء على كيان عاث في الأرض فساداً وإفساداً، وأن يعجل لأمة الإسلام بقيام دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة كما بشر الحبيب المصطفى ﷺ.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع