"لا تهمني أموالهم فليذهبوا إلى الجحيم"، هكذا رد الملياردير الأمريكي إيلون ماسك على مذيع استفزه بسؤاله عن المعلنين الذين انسحبوا من منصة إكس التي يمتلكها بسبب الأزمة التي أحدثتها تغريدة له على منصته، وقد كلفته تلك الجملة "لقد قلت الحقيقة الفعلية" تعليقاً على تغريدة تنتقد مطالبة اليهود بوقف دعاية الكراهية ضدهم - على خلفية ما يحصل في غزة - بينما هم من استخدم الدعاية ذاتها للتحريض على العرق الأبيض في المجتمعات الغربية، وقد اعتُبر المنشور بأنه يدعم نظرية المؤامرة العنصرية والمعادية للسامية والمعروفة باسم نظرية "الإبادة الجماعية للبيض" التي تدور حول أن اليهود يخططون بشكل منهجي لتشجيع هجرة "غير البيض" إلى الدول الغربية بهدف القضاء على العرق الأبيض وتتحدث عن وجود خطة سرية لليهود لإحضار مهاجرين غير نظاميين إلى الولايات المتحدة لإضعاف هيمنة الغالبية البيضاء، وهو ما اعتبره البيت الأبيض ترويجاً بغيضاً لمعاداة السامية من جانب ماسك.
إن حقيقة ما حصل كان عكس ما تحدث عنه ماسك فهم (أي الممولون) لم يذهبوا إلى الجحيم، وإنما هو من حضر ليكفّر عن بضع كلمات أثارت حفيظة رأسماليين داعمين لكيان يهود كان من أبرزهم شركة آي بي إم الأمريكية العملاقة للكمبيوتر التي علقت إعلاناتها على منصة إكس، بعد أن ادعت أن إعلانات الشركة موضوعة بجوار محتوى اعتبرته "معادياً للسامية"، وجاء في بيان صادر عن الشركة "أن شركة آي بي إم لا تتسامح مطلقاً مع خطاب الكراهية والتمييز، وقد قمنا على الفور بتعليق جميع الإعلانات على إكس في الوقت الذي نحقق فيه في هذا الوضع غير المقبول تماماً"، وكذلك شركة آبل التي بدأت وقف جميع إعلاناتها على منصة إكس للأسباب ذاتها وانضمت لهما شركات أخرى!
وهكذا تظهر القيمة المادية والمنفعة بأوضح صورها البشعة التي تتحكم في العقلية الرأسمالية وتحدد لها المقياس عند الإقدام على التصرفات وتُسقِط معها كل القيم الأخلاقية والروحية والإنسانية، فيهرول ماسك إلى كيان يرتكب مجازر قذرة بشعة يندى لها جبين البشرية؛ مجازر طالت الأطفال والنساء والمدارس والمستشفيات وكل شيء، حتى وصل الحال إلى ترك أطفال حديثي الولادة يموتون جوعاً على الأسرّة بعد إجبار الطاقم الطبي على المغادرة، ومن ثم يتحدث ماسك بتبجح أنه لا يخضع للمال ويقول فليذهبوا إلى الجحيم! فأي جحيم تتحدث عنه؟ هل هو جحيم كيان يهود الذي زرته؟ أم أنه جحيم الرأسمالية الغارق في وحلها؟!
لقد أظهر هذا التحول السريع في موقف ماسك مدى التأثير السياسي والفكري والهيمنة المباشرة للشركات الرأسمالية على المنصات الإعلامية وأصحابها ومنع استخدام تلك المنصات فيما يغضب تلك الشركات ويصطدم أو يخالف ميولها الفكرية والسياسية، وهذا ليس محصوراً في تويتر أو إكس حالياً ولا في فيسبوك ولا تيك توك، بل في كل منصة إعلامية عالمية، ناهيك عن الاعتبارات السياسية للدول الكبرى في القوامة والرقابة على سياسة تلك المنصات واستدعاء أصحابها للمثول أمام المجالس السياسية للدولة كما حصل مع ماسك قبل شهرين، حيث مثل أمام الكونغرس الأمريكي! وتأثير تلك الرقابة السياسية للدولة لا يقل عن تأثير الشركات الرأسمالية على تلك المنصات وضبط محتواها.
لقد أسقطت الحرب البربرية التي يشنها كيان يهود على قطاع غزة كل القيم الغربية الكاذبة وكل الشعارات الفارغة عن حقوق الإنسان والطفل والمرأة، وكل الحكومات التي تدعي الدفاع عن المدنيين وحمايتهم، ومعها المؤسسات الدولية والمنظمات الأممية والمنصات الإعلامية التي تتحدث عن الموضوعية ونقل الصورة وحرية الرأي... وفي المقابل حلّق في الأعلى فقط الدعم الكامل لكيان يهود ليبقى قاعدة استعمارية في منطقة الشرق الأوسط المؤهلة لنهضة الأمة الإسلامية، وحلقت معه القيمة المادية التي باتت الثقب الأسود الذي ابتلع معه كل القيم الإنسانية والأخلاقية ودفع ماسك لزيارة غلاف غزة والاتفاق مع رأي رئيس وزراء كيان يهود بنيامين نتنياهو بأنه لا يوجد خيار آخر لدى (إسرائيل) إلا القضاء على حماس، والإعراب عن رغبته في "مساعدة (إسرائيل) في نزع السلاح وإزالة التطرف من قطاع غزة بعد النزاع"، بل وربط سماحه باستخدام خدمة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية "ستارلينك" التابعة لشركته "سبيس إكس" في قطاع غزة كحل إنساني مؤقت لانقطاع خدمة الإنترنت عبر الكوابل، وهو ما تعهد به ماسك سابقاً، ربط ذلك بموافقة وزارة الاتصالات في كيان يهود، وفي المقابل تسخير تلك الأدوات الدقيقة والأقمار الصناعية المتقدمة لخدمة كيان يهود وجيشه في حملته العسكرية على قطاع غزة.
لقد أصبح العالم في ظل النظام الرأسمالي غابة متوحشة تحكمه دول رأسمالية وسياسات استعمارية وشركات ولوبيات رأسمالية باتت أدوات ضغط تؤثر في سياسات الدول وتوجهاتها كما هو الحال في أمريكا، حيث باتت شركات السلاح والطاقة والنفط تمثل الحزب الجمهوري وتؤثر على السياسة الخارجية للدولة حال استلامه الحكم، وشركات التكنولوجيا ووادي السيليكون تمثل الحزب الديمقراطي وتؤثر على السياسة الخارجية للدولة في حال فوزه، وبات نفوذ رأسماليين داعمين لكيان يهود يؤثر على الانتخابات وسياسة الدولة الخارجية، وبات وسيلة ابتزاز فيما يخص كيان يهود ولو بشكل محدود وجزئي ولكن مؤثر إلى حد ما، وهذا الحال السوداوي في تاريخ البشرية يظهر مدى الحاجة إلى مبدأ يعيد صياغة كل شيء متعلق بالدول والأفراد والقيم والمفاهيم والأفكار، وهذا المبدأ هو الإسلام الذي تفضّل به مَن خلق البشرية على البشر لينظموا به حياتهم ويعمروا كوكبهم، وهو ينتظر الدولة التي سوف تضعه موضع التطبيق وتحمله إلى العالم أجمع، وهي دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي يعمل لها حزب واعٍ عريق، هو حزب التحرير الذي لن يفوت هذا السقوط الغربي الرأسمالي والإجرام الدموي في نهضة الأمة الإسلامية وقيادة العالم من جديد.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع