إنّ الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع حرب غزة لم يطرأ عليها تغيّرات جوهرية، فالذي يتغير هو لهجة الخطاب الأمريكي وليست المواقف الأمريكية، فأمريكا مُنذ بداية الحرب استلمت دفّة قيادة الحرب، ومنعت غيرها من المُشاركة فيها، وقطعت الطريق على الدول الكبرى الأخرى من التأثير في مُجرياتها، فأرسلت بوارجها وحاملات طائراتها إلى شرق البحر المتوسط، وتكفلت بجسر جوي مُستمرٍ لا ينقطع؛ يشحن ويزوّد كيان يهود بكل ما يحتاجه من عتاد وذخيرة وسلاح، ومنعت أي دولة إقليمية أو محلية من التدخل في الحرب بشكلٍ قطعي، كإيران ومصر والأردن وتركيا، وحصرت الصراع داخل حدود غزة فقط، ثمّ سمحت بعد ذلك لكيان يهود بشن حرب إبادة ضد أهل غزة، ومنحته الغطاء الدولي لارتكاب المزيد من جرائم القتل والتدمير والتجويع وإهلاك الحرث والنسل داخل حدود قطاع غزة، ولكن منعته من تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء، مع أنّ فكرة التهجير كان هدفاً واضحاً لحكومة نتنياهو تسعى إليه، فسمحت أمريكا لقادة كيان يهود بإشباع مظاهر غريزة الانتقام والحقد لديهم، والظهور بمظهر الأقوياء القادرين على الرد على هزيمتهم المُدّوية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وترميم صورتهم التي تهشّمت، وإعادة الاعتبار لمكانة الدولة التي لا تُهزم.
ثمّ بعد شهرين من اندلاع الحرب، وبعد إشباع نهمهم العسكري في القتل والتدمير، وبعد عجز جيش يهود عن تحقيق أية نجاحات عسكرية سوى قتل النساء والأطفال والمدنيين، بدأت أمريكا في التحركات السياسية، فطرحت أولاً الخطوط السياسية العريضة للإدارة الأمريكية، وشكّلت التصوّر السياسي الأمريكي لحل القضية الفلسطينية، وجعلت من رؤيتها السياسية للحل رؤية عالمية تبنّتها مُعظم دول العالم، لا فرق بين بريطانيا وفرنسا وسائر الدول الأوروبية، أو بين روسيا والصين وسائر دول العالم، فكل الدول على اختلاف مشاربها قبلت بالرؤية الأمريكية للحل.
وتضمّنت هذه الرؤية فكرة الدولتين، ومنح الفلسطينيين الحق السيادي في إدارة شؤونهم، والاعتراف بتطلّعاتهم السياسية، ورفع يد الاحتلال عنهم، واعتبار الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة جغرافية واحدة، وتمكين السلطة الفلسطينية من إدارة شؤون الضفة وغزة بعد إصلاحها وتجديدها، وقامت بضخ هذه الأفكار في وسائل الإعلام وتردّد صداها بين النخب السياسية، وأصبحت من ثمّ جميع دول العالم تُردّد فكرة الدولتين كحل للمشكلة الفلسطينية.
استاءت حكومة نتنياهو التي تضم المستوطنين والمُتديّنين الصهاينة من هذا الطرح السياسي الأمريكي الجديد، فأظهرت رفضها لفكرة الدولتين علانيةً، وقال الوزراء فيها بأنّهم لن يسمحوا بإقامة دولة فلسطينية بين النهر والبحر.
رتّب الرئيس الأمريكي ردّه السياسي على تعنت نتنياهو من خلال حشد اليهود الأمريكيين حوله، وأعاد التذكير بأنّه يتصرف كصهيوني أكثر ما يهمّه حماية أمن دولة يهود، وكرّر القول بأنّه لو لم تكن (إسرائيل) موجودة لاخترعناها، ثمّ وفي أول مؤتمر للمانحين لحزبه الديمقراطي طالب بايدن نتنياهو بالتغيّر، وطالبه بتغيير وزراء في حكومته التي وصفها بأنّها أكثر حكومة مُتطرّفة في تاريخ الدولة اليهودية، وقال بأنّ الشعب اليهودي بات على المحك، وأنّها تفقد الدعم العالمي بسبب القصف العشوائي لطائراتها في غزة، ثمّ تمّ تسريب تقييم استخباري أمريكي كشف عن أنّ ما يصل إلى 45% من إجمالي قذائف جو-أرض الـ 29000 التي أطلقها الجيش على غزّة كانت قذائف غير مُوجّهة (قنابل غبيّة) بهدف تشويه الحملة العسكرية لنتنياهو، ولكنّ نتنياهو لم يقف صامتاً على هذا الهجوم السياسي الأمريكي فردّ عليه بهجومٍ مُعاكس، ودعا إلى إنشاء إدارة مدنية في غزة تابعة لجيش الاحتلال، وأكّد على أنّ غزّة لن تكون حماسستان ولا فتحستان، وقال بأنّه لن يسمح بالعودة إلى خطأ اتفاقيات أوسلو، وتحدّى بايدن أكثر فقال بأنّ القائد الأنسب حالياً لقيادة الدولة اليهودية هو الذي يستطيع مُقاومة الضغوط الأمريكية، وأنّه لن يكون مثل ديفيد بن غوريون أول رئيس لكيان يهود سنة 1956 الذي خضع وقتها لأمريكا، وانسحب من غزة وسيناء امتثالاً لطلب الولايات المتحدة، وذلك بُعيد العدوان الثلاثي على مصر وقناة السويس الذي شارك به كيان يهود مع بريطانيا وفرنسا، وبذلك بلغت العلاقة بينه وبين بايدن أسوأ درجاتها.
لكنّ أمريكا لم تُظهر تذمّرها من نتنياهو علناً، بل قامت بإطلاق تصريحات فيها شيء من التهدئة والاحتواء، وقالت بأنّ من حق حكومة نتنياهو الدفاع عن نفسها، وأنّها هي التي تُقرّر الفترة الزمنية للحرب حسب ما تراه مُناسباً.
وفي الوقت نفسه قامت الإدارة الأمريكية بإرسال مُستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إلى كيان يهود، وهو الرجل الأخطر الذي يُشرف مُباشرة على تنفيذ الخطط الأمنية في أي مكان لأمريكا نفوذٌ فيه، وبعد عقد مُفاوضات حاسمة مع المسؤولين السياسيين والأمنيين في كيان يهود، أعلن عن التوصل إلى اتفاق بين واشنطن وتل أبيب على أنّ القتال سيستغرق أشهراً كما طالب نتنياهو، ولكن وفق مراحل مُختلفة، وأنّ (إسرائيل) ستُواصل مُطاردة قادة حركة حماس في غزة كالسنوار والضيف ونائبه مروان عيسى، وأوضح في مؤتمر صحفي عقده في تل أبيب بأنّه سيكون هناك انتقال إلى مرحلة أخرى من الحرب بين (إسرائيل) وحماس ستركّز على طرق أكثر دقة لاستهداف قيادة حماس، وأكّد على أنّ (إسرائيل) لا يُمكنها إعادة احتلال غزة على المدى الطويل، وأنّ الفلسطينيين الذين تمّ إجلاؤهم من شمال غزة يجب أنْ يتمكّنوا من العودة لبيوتهم، كما أعاد التأكيد على ضرورة حل الدولتين، وعلى أنْ تقوم السلطة بعملية إصلاح وحوكمة على الطريقة المؤسّساتية، وتكون أمريكا شريكةً معها لمُراقبتها وتطوير أساليبها، وأنّها بحاجة إلى التجديد لتمثيل شعبها.
إنّ هذا الاتفاق يعني في النهاية أنّ الحرب الواسعة المُكثّفة ستنتهي، وأنّ فرص التفاوض على مُبادلة الأسرى ستزداد، وهذا يؤدي بالتالي إلى الدخول في فترة هدوء نسبية تخلق معها ظروفاً جديدة، ستؤدي على الأغلب بالإطاحة بنتنياهو وشركائه اليمينيين، وهذا بالضبط ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية.
إنّ صمود المُقاومة وتحمّل أهل غزة حمم الطائرات اليهودية، وصبرهم على سياسة التجويع المقصودة طوال هذه المُدّة الطويلة من الحرب، وتحمّلهم لكل هذه الأحزان والجراحات والشهداء، هو الذي أدّى إلى فشل مُخطّطات تصفية القضية الفلسطينية، وهو الذي أربك حسابات جيش الاحتلال، وأثبت هشاشة هذا الكيان الصهيوني الذي حطّمت هذه الحرب أسطورته المُزيّفة، وبدّدت الهالة الكاذبة التي كانت تُردّدها وسائل الإعلام العربي الرسمي عن قوة جيشه التي لا تُقهر، فإذا بها قوةً وهمية لم تستطع بعد أكثر من سبعين يوماً من القتال من تحقيق أية إنجازات.
رأيك في الموضوع