لم يعد هناك شك في أن السبيل إلى نصرة غزة وفلسطين وإنقاذهما من عدوان يهود يمر عبر تحرك الجيوش، جيوش الأمة الرابضة في ثكناتها، وتكشّف للجميع مدى هشاشة جيش يهود وانفضاحه أمام ضربات المجاهدين، وبدا كيف أن كيان يهود لا يقوى على قتال أو حرب، وأن الصورة التي رسمت لهذا الكيان طوال سبعة عقود من عمر هذا الكيان كانت مبنية على الوهم والسراب.
ولكن في المقابل برز تساؤل كبير حول إمكانية تحرك الجيوش أو حتى تململها، بعد أن رأى الجميع المجازر التي أبكت الصخر وأنطقت الحجر من فظاعتها وقساوتها، ومع ذلك لم تتحرك الجيوش، كلها أو بعضها، فإن كانت كل مشاهد الدماء والأشلاء والآهات والمجازر والدمار لم تحرك جيشا أو كتيبة أو لواء أو فرقة أو حتى ضابطاً، فكيف سنعول على تحرك الجيوش إذاً؟ خاصة عند تأمل ما حدث في معركة الكرامة مثلا، حينما أحدث الضابط المغوار مشهور حديثة الجازي الانعكاسة في المعركة، انعكاسة من الهزيمة التي أرادها الاستعمار والملك حسين للجيش الأردني وتقهقره أمام جيش يهود، إلى نصر مؤزر دحر الاحتلال وأرجعه إلى حيث لم يكن يتوقع. ما حدث في تلك المعركة كان بعد أن قطع اتصاله بالقيادة وقاتل بما عنده ومن معه، فكتب الله له النصر على جيش يهود، ولكن كان ذلك ممكنا لسببين؛ الأول أن الضابط ومن معه هم كانوا في المعركة أصلا، ومعهم عدتهم وعتادهم، فهذا قطاع من الجيش كان قد تحرك أصلا وخرج من ثكناته والتحم مع العدو، ولا ينقصه سوى أوامر مواصلة الالتحام، والسبب الثاني أن ما كان معهم من عدة وعتاد كان كافيا لدحر العدو ولم يحتاجوا إلى المزيد من الإمداد.
وكذلك الأمر مع الدقامسة ومحمد صلاح، فهما جنديان وجدا في ساحة مواجهة محتملة وبيدهم السلاح الخفيف، فتحركا بما لديهما وبما يسر الله لهما فقاما ببطولة عظيمة، ولكن كيف لجندي مصري أو أردني موجود في ثكنته أن يتحرك دون أمر عسكري أو حتى تصريح بالخروج؟!
وهكذا تبرز العقدة التي تحتاج إلى تفكيك، ولا يسعف كثيرا في تفكيك هذه العقدة التأكيدُ على الخير الموجود في الجيوش كونهم أبناء الأمة الإسلامية العظيمة، إذ من السهل التسليم بهذه الحقيقة كونها حقيقة دينية يمكن الوصول إليها بسهولة من النصوص الشرعية، كقوله ﷺ: «مثَلُ أُمَّتي مثَلُ المطَرِ؛ لا يُدْرَى أوَّلُه خيرٌ أمْ آخِرُه»، هذا فضلا عن الواقع الذي لا تخطئه العيون والذي يسهل من خلاله إدراك هذه الحقيقة. ولكن وجود الخير لا يعني وجود إمكانية الحدوث في ظل التركيبة الحديثة للجيوش وفي ظل عدم وجود حالة الالتحام التي تتيح للأفراد التمرد أو التحلل من القيادات.
وبالطبع لا يختلف في ذلك كل من تدبر النصوص الشرعية وفقه معاني الأحاديث والآيات التي توجب على المسلم القادر أن ينصر أخاه المسلم المستضعف وأن يغيثه، كقوله تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾، وقوله ﷺ: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ»، وأن واجب التحرير والجهاد قائم ومعقود على كل قادر ومستطيع من أبناء الأمة الإسلامية، وفي مقدمتهم دول الطوق المحيط بفلسطين، وعلى رأس القادرين لا شك تتربع الجيوش، فهي التي تملك السلاح والعدد والتدريب والمهارة والقدرة على الجهاد والقتال المنظم لتحرير فلسطين وباقي بلاد المسلمين المحتلة. وأن معنى ذلك أن يبقى الدعاة والآمرون بالمعروف يواصلون دعوة القادرين ونداءهم إلى وجوب تلبية النداء والقيام بالواجب تحقيقا لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ولكن تبقى العقدة هي كيف السبيل إلى تصور نصرة الجيوش لفلسطين أو تحركها لنجدة غزة وقتال يهود؟!
الجواب على هذا السؤال هو في ضرورة تصور أن الحديث عن وجوب تحرك الجيوش ونصرتها لغزة هو حديث فكرة وواجب، وهذا الواجب لا بد حين التلبس للقيام به من الإتيان بكل ما لا بد منه لتنفيذ هذا الفرض، وهو عينه دلالة القاعدة الأصولية "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، فالضابط أو الجندي حينما يقرر الاستجابة لنداء الله بنصرة إخوانه في غزة أو السير نحو قتال يهود وتحرير بيت المقدس، عليه أن يتلبس بكل ما من شأنه أن يمكنه من تنفيذ النصرة والجهاد، وأن يذلل كل العقبات التي تقف في وجه تحركه لأداء الواجب.
فإن كان الجندي أو الضابط صاحب رأي وبصيرة ورتبة تمكنه من وضع ترتيب للتحرك، وقد يكون من ذلك أنه يلزمه حتى يستطيع التحرك ومن معه أن يقلب عرش النظام وينفذ انقلاباً على الطغمة الحاكمة العميلة، إن كان ذلك الجندي قادرا على ذلك أو على البدء بوضع الترتيبات اللازمة لذلك فقد وجب عليه ذلك، ويسقط الفرض بذلك عنه بتلبسه بالعمل بما يلزم لتحقيق هذه الغاية، وإن لم يكن هذا الجندي أو الضابط قادرا على التخطيط أو وضع الترتيبات اللازمة للانقلاب والتحرك، فحينها يلزمه أن يلتحق أو يسير خلف من يعمل في هذا العمل وله خبرة فيه أو لديه مخطط قابل للتنفيذ، كحزب التحرير، الذي يملك جهازا كاملا مختصا بهذا الشأن يدعى جهاز طلب النصرة، يعمل بين الجيوش في البلاد الإسلامية من أجل وضع ترتيب لكل من ينضم له من المخلصين والراغبين بالتغيير لإحداث التغيير والانقلاب على النظام والسير بالجيوش والبلاد إلى الجهاد وتحرير البلاد وتطبيق شرع الله.
ومن ناحية عملية، فإن امتلاك فرد واحد لقدرات كبيرة على التنظيم ووضع الترتيب، هي مسألة صعبة بالعادة، ولأنه على فرض وجود القدرة تلك عند أحد الضباط فإن الأولى له أن يضم يده إلى يد من سبقه في هذا العمل، لذلك كان الواجب على كل جندي أو ضابط قرر نصرة فلسطين وغزة والإسلام أن ينضم إلى ترتيبات الحزب الهادفة إلى إحداث الانقلاب على عروش الحكام، والسير بالأمة والجيوش نحو نصرة فلسطين وتحرير الأرض المباركة وكل بلاد المسلمين الأخرى المحتلة.
لذلك كان تصور تحرك الجيوش دون السير مع الحزب ومخططه للتغيير مسألة صعبة تدفع البعض إلى الحكم باستحالة تحقيق تلك الغاية، وما على الداعي إلا أن يسلط الضوء على الحلقة المفقودة في التنفيذ وليس في الفكرة، وهذه الحلقة هي إيجاد الترتيب اللازم للتحرك والنصرة، وهي كما ذكرت أعلاه إنما تكون بالعمل والانضمام إلى الترتيبات التي يعمل عليها حزب التحرير في أي من البلاد الإسلامية.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع