"نريد سيطرة أمنية على القطاع بعد الحرب ويجب أن تكون غزة منزوعة السلاح… وهناك قوة واحدة فقط يمكنها أن تكون مسؤولة عن ذلك وهي الجيش (الإسرائيلي) ولن أكون مستعداً لأي ترتيب آخر، ونرفض بشكل قاطع تولي السلطة الفلسطينية مهام الحكم بقطاع غزة بعد الحرب"، خلاصة مواقف كيان يهود بقيادة نتنياهو، وهي تتعارض مع الموقف الأمريكي الرسمي على لسان الرئيس بايدن وإدارته في البيت الأبيض، والتي تؤكد أنها ما زالت حريصة على أن تسيطر السلطة الفلسطينية على غزة بعد الحرب، وقد برزت هذه الخلافات مؤخراً بشكل لافت على السطح وأصبحت محل نقاش وسجال خاصة داخل حكومة الحرب ومجلسه في كيان يهود، وسوف نقف في هذه المقالة على حقيقة هذه الخلافات وانعكاساتها على حرب غزة وقضية فلسطين وكيفية مواجهتها...
لقد شكلت ضربة السابع من تشرين الأول/أكتوبر عاصفة عصفت بكل الترتيبات السياسية التي كان يستند لها كيان يهود والأمريكان في نظرتهم لإنهاء الصراع وتصفية القضية؛ فكيان يهود كان يستند للفصل السياسي الحاصل بين الضفة وقطاع غزة ووجود سلطتين وحالة الانقسام للتذرع بعدم وجود أفق للحل السياسي والجلوس لبحث ملف "السلام" قبل المصالحة بين سلطة رام الله وغزة، تلك المصالحة التي كان يعرقلها كيان يهود في بعض الأحيان بعرقلة الانتخابات وإخراج ملف القدس منها، وهو ما كانت ترفضه السلطة وتتخذه ذريعة لعدم خوض انتخابات في ظل الرصيد الشعبي الصفري لها، حتى جاءت الضربة القوية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر فأصابت كيان يهود بجنون الحقد والانتقام ومحاولة ترميم صورته العسكرية والأمنية، ودفعه ذلك للهجوم البري لاحتلال قطاع غزة الذي قرر في عام 2005 الخروج منه نهائياً وعدم العودة إليه، وهنا أصبح أمام واقع سياسي جديد وهو ما بعد الحرب التي جعل أحد أهدافها الرئيسية تغيير الواقع السياسي في القطاع وإنهاء التهديد العسكري للفصائل!
أما بالنسبة لأمريكا فقد خلطت الضربة أوراقها المتعلقة بالقضية، فهي من جانب ترى أن إعادة تسليم قطاع غزة للسلطة فيه شيء من بث الروح في مشروع الدولتين رغم إدراكها أن هذا المشروع أصبح صعب التطبيق بل فيه شيء من الاستحالة، وهو ما دفع ترامب لتجاوزه بصفقته التي فشلت، ولكنها ترى أن تسليم القطاع للسلطة بعد الحرب قد يعيد شيئا من حظوظ التنفيذ للمشروع، ولكنها أيضاً تدرك صعوبة قبول كيان يهود لذلك، فهو منذ نشأته وفي أفضل أحواله كان يرفض التخلي عن الضفة الغربية، فكان تيار اليسار العلماني الحالم بدولة تجمع شتات الشعب اليهودي يريدها - الضفة الغربية - جزءاً من دولة ديمقراطية علمانية يحكمها اليهود وتستوعب العرب، ومن ثم جاء التيار القومي اليميني التوراتي فأصبح يريدها جزءاً من الدولة اليهودية التي لا تستوعب العرب ولا تقبل بوجودهم وترى الحل في تهجيرهم، وهو التيار الحاكم اليوم والممثل للرأي العام، إضافة إلى ذلك التوجه جاءت هذه الضربة لتعزز عند يهود كابوس الخطر الوجودي وأن زوالهم أقرب مما كانوا يتخيلون، وهذا جعلهم يتحركون بجنون لا يعطي مساحة لأمريكا للضغط كثيراً بخصوص مشروع الدولتين.
ولتصور ذلك يجب ملاحظة خطأ قياس هذه المرحلة والحرب على الأحداث السابقة؛ لأن طبيعة الضربة وقوتها وتعامل كيان يهود معها اتخذ منحى الوجود والبقاء، وهذا ما عبر عنه قادة يهود بلا استثناء ويلخصه مؤخراً قول غالانت "بدون نصر واضح للحرب لن نتمكن من العيش في الشرق الأوسط"، وكان نتنياهو وصفها "بحرب الاستقلال الثانية وأنه لا يوجد مكان آخر يذهب إليه الشعب اليهودي"، أما غانتس فقال معقباً على قرار محكمة العدل العليا بإعادة صلاحية قرار اللامعقولية للمحكمة "يجب احترام قرار المحكمة ولكن نحن إخوة ونواجه مصيراً مشتركاً"، وهذا الواقع يعطي مساحة لكيان يهود للتحرك العسكري والسياسي بغطاء من أمريكا التي أصبحت أمام خيارين:
فإما أن تكبح جماح كيان يهود الذي يمضي في مخطط تهجير مجدول وواسع لقطاع غزة بعد أن دمر القدرة على العيش والبقاء فيه، ووقف حربه بشكل سوف يظهره بمظهر الفشل والهزيمة، وهذا سوف يعني سياسياً أن على اليهود أن يفككوا كيانهم ويرحلوا، وإما أن تدعمهم في حربهم المجنونة مع محاولة الضبط وإقناعهم بتصورها لما بعد الحرب، فلا تجعل الحرب وانتصار يهود فيها محل خلاف ولكن تحصر الخلاف فيما بعد الحرب، ولكن ما يعقد الأمور أن كيان يهود يرى أن الوقت قد حان لتخطي مشروع الدولتين سياسياً ونقل الحديث من إعادة قطاع غزة لحكم السلطة إلى الحديث عن إنهاء السلطة في الضفة الغربية وشعاره لا فتحستان ولا حماسستان، وأن هذه الضربة رسخت القناعة لديهم أنه لا أمن لدولتهم وشعبهم ما بقي أهل فلسطين في هذه الأرض، وأن أمنهم يجب أن يكون بجيشهم ودولتهم وليس بسلطة وطنية ولا دولة فلسطينية... وهذا التباين في النظرة بين أمريكا التي ترى أن تحقيق أمن يهود يكون بإنهاء الصراع وإحياء مشروع الدولتين، وبين نظرة يهود القائمة على قبر هذا المشروع وتهجير أهل القطاع وضم الضفة وإبعاد حزب إيران عن الحدود الشمالية، فجّر الخلافات التي بدأت تصعد إلى السطح مع هامش من الحذر خاصة من قبل أمريكا التي باتت أولويتها السياسية تقوم على إعادة تقوية وترميم صورة قاعدتها العسكرية والمهمة مهما كانت الفاتورة السياسية والمالية والعسكرية، فوجود (إسرائيل) يعتبر مصلحة استراتيجية استعمارية لأمريكا والغرب ومُقدم على مشاريع السلام بكل أشكالها وتفصيلاتها، وهي ليست أكثر من دعامة لإسناد هذه القاعدة ولن تجعلها أمريكا معول هدم إن عجزت عن توظيفها كأداة بناء ودعم.
ولذلك فإن الخلاف على ما بعد الحرب هو خلاف استعماري خبيث؛ فأمريكا تريد تأمين وجود قاعدتها بالطريقة التي تراها الأفضل لتحقيق ذلك، ويهود يريدون تأمين دولتهم بالطريقة التي يرونها الأنسب لذلك، وهذه التصورات محكومة بالتطورات على الأرض وتقدم العملية العسكرية، فإما أن تفرض صعوبة المعركة والخسائر الكبيرة على يهود الاستسلام للطلب الأمريكي لتُحقق لهم أمريكا بالسياسة ما عجزوا عن تحقيقه بالحرب والدمار والقتل، وإما أن تكون منطلقاً لتجاوزه بشكل نهائي، ولذلك لا يعدو هذا الخلاف عن كونه خلافاً استعمارياً خبيثاً بتصوراته، ولا منقذ لأهل فلسطين من هذا الواقع الخطير جداً سوى تنفيذ التصور الشرعي لقضية فلسطين؛ وهو أن تتحرك الأمة بجيوشها لتحرير فلسطين كاملة والقضاء على كيان يهود.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع