لم تعمر دولة كما عمرت دولة الإسلام؛ لقد كانت خلافة ورحمة، على مدار ثلاثة عشر قرنا، حملت رسالة الإسلام ونشرتها في أصقاع الأرض، طبقت الإسلام فصنعت أعظم حضارة عرفها التاريخ، عمرت الأرض وطورت العلوم وأخرجت الناس من الظلمات إلى النور، من ظلم الأكاسرة والأباطرة والملوك إلى عدل الإسلام، لم تكره الناس على الإسلام، واعتبرت أهل الأديان الأخرى أهل ذمة، لهم عهد الله وذمة رسوله وأي اعتداء عليهم هو اعتداء على رأس الدولة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فكانت دولة رحمة للعالمين، حيثما حلت صنعت حضارة وبنت مجتمعا آمنا مطمئنا مرفّها، على عكس ممالك الغرب، وما اقترفته من وحشية وجرائم في حق شعوب الأرض، والتاريخ مليء ببشاعة أفعالهم.
وعندما جاءت الثورة الصناعية للغرب التي سموها ثورة التنوير لم تغير من طبيعة دولهم الدموية؛ فأينما حل الغرب حل معه الخراب والدمار والفقر والجوع والعنصرية والاستعباد، فجماجم البشر في متاحفهم تشهد على ما ارتكبوه في حق الشعوب التي ابتليت باستعمارهم، ماذا فعلت الدول الاستعمارية في أفريقيا وآسيا وشبه القارة الهندية وفي اليابان وفيتنام وأستراليا وفي شعوب الأمريكيتين وغيرها، ولا زالت تفعل؟!
إن آثار المسلمين في الأندلس وما تركوه من علوم وما صنعوه من حضارة وتقدم ورقي لا يزال شاهدا على رحمة الإسلام ورقي حضارته، على عكس ما أنتجته الحضارة الغربية الرأسمالية التي ما أنتجت إلّا انحطاطا للقيم وشذوذا وسقوطا أخلاقيا وإنسانيا فرضته على الشعوب بالقوة، فنشرت الرذيلة وحاربت الطهر والعفاف، والفطرة السليمة، وصنعت إرهابا وحروب إبادة جماعية، وكوارث... أبدعت في الابتكار والصناعة وجعلتها أداة إفناء وشقاء للبشرية لا رحمة ولا سعادة، فكانت خزانا للشرور.
لقد كانت الخلافة طرازا فريدا من الحكم، أسعدت من استظل بظلها على اختلاف الدين والعرق واللون، فلم تعرف أقليات وطوائف وفئة متغلبة وأخرى مستضعفه، وكان شعارها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾، وقوله عز وجل: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾. هذه حضارة الإسلام ودولته.
لقد انقسم الناس أمام الإسلام إلى فئتين: فئة اعتنقت الإسلام إيمانا به وحبا في عدالته وقيمه الرفيعة وطمعا فيما عند الله. وفئة بقيت على دينها وعاشت في ظل دولته محفوظة الحقوق والكرامة.
أما الدول الكافرة فكانت جميعها ترى في الإسلام خطرا ماحقا على سلطانها وملكها ونفوذها، فأعلنت حربا عقائدية لا هوادة فيها ولا رحمة. ولقد كانت أطول الحروب وأشدها شراسة هي الحروب الصليبية. فقد كانت حربا عقائدية ثقافية واقتصادية وعسكرية دموية. فإذا تمكن الصليبيون من المسلمين ارتكبوا أبشع الجرائم، وما تقشعر منه الأبدان وتأنف منه الوحوش، وما فعلوه قديما في بيت المقدس، وما فعلته محاكم التفتيش في الأندلس، لهو خير دليل. وفي العصر الحديث ما فعلته دولهم الاستعمارية في أفريقيا وآسيا وأفغانستان والشيشان، وفي البلقان والعراق والشام لا زال ماثلا للعيان ومخلدا في أعماق الشعوب. وفي كل مرة يتمكن فيها الغرب من بلاد المسلمين عبر حملاته الصليبية الاستعمارية كان يخرج صاغرا ذليلا على أيدي المجاهدين.
لقد أدرك الغرب الصليبي بعد دراسة عميقة أن القوة التي مكّنت المسلمين في كل مرة من هزيمتهم وطردهم، ولم تجعل لهم استقرارا في بلاد المسلمين تكمن في عدة أمور:
أولا: قوة عقيدة الإسلام ورسوخها عند المسلمين.
ثانيا: وحدة بلاد المسلمين المتجسدة في دولة الخلافة، ولحمة شعوبها على اختلاف ألوانهم وأعراقهم.
ثالثا: قيادتهم المخلصة التي تحفظ الدين وتسوس الدنيا بشرع رب العالمين.
فكان لا بد له من تدمير مكامن قوة المسلمين، فكانت الأعمال التالية:
١- إلغاء الخلافة بأيدي خونة العرب والترك.
٢- تمزيق بلاد المسلمين وتقسيمها دويلات هزيلة بلا سيادة ولا قرار.
٣- تنصيب حكام موالين للغرب ينوبون عنه، ولا يعرفون سوى مصالحه، ليس لهم دور سوى محاربة الإسلام وقهر الشعوب وتمكين الكفر من بلاد المسلمين.
٤- زرع سرطان في قلب الأمة الإسلامية معادٍ لها يفصل جناحها الأفريقي عن الآسيوي، يحول دون وحدتها، ويكون قاعدة عسكرية متقدمة له، ورأس حربة في صدر المسلمين، وذريعة للتدخل في بلاد المسلمين، ولصرف نظر الشعوب الإسلامية عن العدو الحقيقي.
- فكان وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
- وكان اتفاق سايكس بيكو لتمزيق البلاد.
- وكان تأسيس جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لتكريس الفرقة والقطرية.
- ثم صنعوا استقلالا وهميا ونصّبوا حكاما يوالونهم على كل مزقة من بلاد المسلمين.
إن كيان يهود هو مشروع استعماري غربي استراتيجي وظيفي، وكذلك سائر الدول القطرية، لتحقيق انتصار دائم على المسلمين. وعند الشروع في بناء الكيان لم يكن هناك شعب يهودي ليقيموا له دولة، ولم يكن هناك أي أساس لبناء دولة حقيقية، فكان لا بد من صناعة ركائز تقوم عليها دولة الكيان:
الركيزة الأولى: فتح باب الهجرة لليهود إلى فلسطين وترغيبهم في العيش فيها بكل المغريات، فاستقدموا اليهود من شتات الأرض، من دول مختلفة وبيئات مختلفة؛ من بلاد شيوعية اشتراكية ورأسمالية علمانية، تحت شعارات كاذبة لتكون دولة دينية لشعب علماني، فكان هذا الشعب خليطا هجينا متناقضا لا رابط بين مكوناته، سوى مكتسبات العيش.
الركيزة الثانية: توفير كل سبل العيش المريح للقادمين، فاستقطب ذلك كل الفاشلين وشذاذ الآفاق والمجرمين فصنعوا منهم عصابات الهاجانا والأرغون وشتيرن وسلّحوها فارتكبت المجازر في أهل فلسطين العزل الذين حُرِّم عليهم السلاح.
الركيزة الثالثة: إمداد هذا الكيان بكل أسباب القوة العسكرية والاقتصادية ليملك الردع اللازم والتفوق على كل دول الجوار لترسيخ القناعة عند مواطني هذا الكيان الصناعي بالأمن الذي هو أساس ارتباطهم به.
لقد تم دعم هذا الكيان سياسيا باستصدار قرارات دولية تعطيه الحق في فلسطين، ثم تمت صناعة حروب مسرحية مع دول الجوار لإظهاره بالقوة التي لا تقهر لفرض الحلول الاستسلامية الخيانية على الشعوب، ثم جاء التطبيع مع الحكومات العميلة لدمج الكيان في المنطقة، عندئذ يصبح قاعدة غربية فاعلة في الهيمنة على المنطقة وقراراتها.
- لقد جاء طوفان الأقصى وقوض الأسس التي قام عليها هذا الكيان:
- أسقط خرافة الجيش الذي لا يقهر فسقطت ركيزته الأساسية ألا وهي قوة الردع والتفوق.
- ضرب في عمق الكيان فدمر ركيزة الأمن ففقدت الثقة بالجيش وقدرته على حفظ الأمن.
- أظهر هشاشة الدولة وتفكك مكوناتها وغياب رابطة حقيقية بين مكوناتها.
- أظهر زيف انتماء الشعب لهذا الكيان وأنّ ليس لديه الدافع للتمسك به والتضحية من أجله، فظهر تعدد الجنسيات وازدحمت المطارات بالهاربين منه.
- لقد أصبح الكيان دولة اسما بلا مسمى فتحول من دولة إلى قاعدة عسكرية ولا تزيد.
- لقد أصبح هذا الكيان بتصرف حكوماته وطبيعة شعبه التي جُبل عليها من أحد أسباب عدم استقرار النفوذ الغربي في المنطقة، ومن أهم بواعث الثورات عند الشعوب المسلمة التي تهدد وجوده ونفوذه ومصالحه، فأصبح خطرا على نفسه وعلى مصالح من صنعه. وهذا يعني فشل المشروع الغربي الصهيوني في دوره الوظيفي.
وعند أي مراجعة عقلانية عند أصحاب القرار السياسي سيثبت أنه مشروع خاسر لا بد من التخلي عنه في ميزان الرأسمالية النفعية. ومما يؤكد ذلك ما حدث في غزة وتداعياته في العالم الإسلامي، وأثره على النظام الدولي والمنظمات الدولية والحقوقية، وأثره الخطير في الرأي العام العالمي وما أحدثه من انقلاب لصالح الإسلام والمسلمين، والتعاطف معهم، وتحول الرأي العام ضد سياسات الغرب وربيبتهم كيان يهود، كل ذلك يدفع باتجاه التخلي عن هذا الكيان وعن هذا المشروع الخاسر، فقد ثبت للجميع أن الاستمرار في دعمه وموافقته على جرائمه يشكل خطرا على داعميه. وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾.
إن الحل الوحيد والصحيح هو عودة دولة الرحمة والعدل، دولة الخلافة التي تكون بديلا عن حضارة الوحوش فتنقذ البشرية من جرائم حضارة الرذيلة والإجرام. قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾.
بقلم: الشيخ سعيد رضوان أبو عواد (أبو عماد)
رأيك في الموضوع