منذ قرون طويلة، شكلت أرض فلسطين المباركة موطن صراع بين الحق والباطل، بين الإسلام والكفر. فمنذ أن فتحها المسلمون دافعوا عنها دفاعا مستميتا بوصفها أرضا إسلامية مرتبطة بعقيدتهم الإسلامية.
فقد شكلت فلسطين مقبرة لكل غازٍ وطامع بها، فكانت مقبرة للصليبيين في حروبهم الصليبية قبل ألف عام، ومقبرة للتتار في عين جالوت بعد أن اجتاحوا بلاد المسلمين طولا وعرضا. وفي العصر الحديث، لم يفلح الفرنسيون في حملتهم للشرق بقيادة نابليون بونابرت في احتلال فلسطين بل كانت نارا على جنده في نابلس، وتحطمت آماله على أسوار عكا. كما لاقت بريطانيا خسائر وهزائم منذ سيطرتها على فلسطين عبر ثورات عديدة، ولولا وعوداتها الكاذبة، وقلة السلاح، والضغوط العربية الرسمية على الثائرين قبيل الحرب العالمية الثانية لقُبر جنودها في فلسطين، وخرجت تجر أذيال الخيبة.
وفي غزة، فقد شكل القطاع مقبرة وجحيما ليهود، وكابوسا يطاردهم في كل مكان حتى خرجوا منه عام 2005 إلى الغلاف، فكانت عصية أمام كل حروب يهود عليها. وغزة اليوم في حربها شكلت مقبرة كبرى لجنود الكيان وآلياته العسكرية في مشهد لم نره منذ النكبة، وستكون نهاية الكيان بإذن الله على هذه الأرض، وكان على ربك حتما مقضيا.
كما شكلت الأرض المباركة مقبرة لمشاريع المستعمرين التصفوية التي مرت على القضية الفلسطينية. فقد قُبر مشروع حل "الدولة الواحدة" الذي قدمه الإنجليز لحل الصراع في فلسطين بعد أن تسببوا في هجرة اليهود إليها. وكانت بوادر ذلك المشروع متمثلاً في وعد بلفور حينما منح الإنجليز يهود وطنا قوميا لهم في فلسطين، فقد تضمن الوعد ذكر "طوائف" - أي أهل فلسطين! - يجب عدم انتقاص حقوقها المدنية والدينية عند إقامة الوطن! ثم طرح الإنجليز عبر الكتاب الأبيض لعام 1939م مشروع "دولة فلسطين" يعيش فيها يهود والفلسطينيون سويا، رافضة اقتراح لجنة بيل (1937م) المتعلق بتقسيم فلسطين إلى دولتين. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتغير موازين القوى الدولية، وتراجع بريطانيا وفرنسا - كقوى عظمى - واعتلاء الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مكانهما، انتهى المشروع الإنجليزي فعليا وأزاحته الولايات المتحدة منذ عام 1947م. فلم يعد الحل الإنجليزي محل نقاش إلا عند بعض عملاء بريطانيا، كهرطقات القذافي في دعوته إلى دولة واحدة اسمها "إسراطين"! فهذا المشروع لم يعد أحد يتكلم به اليوم على الصعيد الدولي أو الشعبي.
ومع قيادة الولايات المتحدة الأمريكية المعسكر الغربي منذ عام 1945م، فقد طرحت مشروعا سياسيا مغايرا لحل الصراع يتمثل بتقسيم فلسطين إلى دولتين فيما يعرف بـ"حل الدولتين" بعد أن حاز مقترح التقسيم تصويت الأكثرية في هيئة الأمم المتحدة - قرار الأكثرية - الذي تضمن دولتين لشعبين فكان قرار التقسيم (181) الصادر بتاريخ 29/11/1947م.
لقد تبنت أمريكا تلك الرؤية عمليا بداية الستينات من القرن الماضي. ورغم مرور ما يزيد عن ستين عاما على الطرح إلا أن أمريكا لم تستطع تطبيقه حتى اللحظة، لتعنت العقلية اليهودية من جهة، ورفض أهل فلسطين أن تُقسم البلاد إلى نصفين. ويُعَدّ عجز أمريكا هذا فشلا لسياساتها وهي التي تتربع على عرش المجتمع الدولي.
لقد حاول الرئيس الأمريكي السابق ترامب أثناء فترة حكمه إحداث تغيير في شكل الحل لا في مضمونه، بوضع تصور جديد لشكل الدولة الفلسطينية في ظل تعنت يهود ببقاء المستوطنات والمكوث في الضفة، كمحاولة لتطبيق وجهة النظر الأمريكية التي عجز أسلافه عن تطبيقها. ومع ذلك فقد قُبرت وجهة نظره مع مغادرته للبيت الأبيض، وذهبت أوراق صفقة قرنه أدراج الرياح!
وأمام عجز أمريكا هذا فإنها ما زالت تُسخر كل الأوضاع وتنتهز الفرص الدموية لطرح حلها للصراع الدائر لا سيما بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، فهي تقف إلى جانب يهود في حربهم للقضاء على حكم حماس وإعادة سلطة رام الله تمهيدا للحل السياسي، وترفض كل ما يخالف رؤيتها كتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء كون ذلك يعارض حلها المتمثل بدولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، كما تحاول حصر الصراع في القطاع، وعدم فتح جبهات أخرى، حفاظا على الكيان وتمهيدا لتنفيذ رؤيتها.
إن المشروع السياسي الذي ينهي حالة الصراع في فلسطين ويسحق كيان يهود ويجهز عليه هو مشروع الأمة المتمثل بإقامة دولة الخلافة الثانية، فهو المشروع الكفيل والقادر على تحرير فلسطين كل فلسطين، وتطهير سائر المقدسات من رجس يهود، وإعادة اللاجئين، وتحقيق الأمن والأمان. وهو أمر سيتحقق بإذن الله، بشر به رسول الله ﷺ القائل: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ» رواه مسلم. وسيكون بيت المقدس عقر دار الخلافة لقوله عليه الصلاة والسلام كما ورد عند ابن عساكر: «... ثُمَّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَثَمَّ عُقْرُ دَارِهَا...»، وهذا كله كائن بعد إقامة الخلافة وتحرك الأمة وجيوشها للتحرير.
إن قضية فلسطين قضية ربانية، فهي أرض باركها الله من فوق سبع سماوات، لذلك باءت مشاريع الكفار بالفشل والموت، ومهما مكر الكفار وتجبروا فلن يفلحوا أبدا ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه﴾، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
بقلم: د. حامد شاهين – الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع