بالنظر إلى أن قيامَ دولة الخلافة يعتبر أوَّل إنجازٍ على طريق استئناف الحياةِ الإسلامية في بلاد المسلمين، وباعتبار قيام الدولة على أساس العقيدة الإسلامية نصراً عظيماً على أعداء الإسلام، فإن طول الـنَّفَس مع الصبر والثبات هو من أهم صفات ومستلزماتِ السياسيين المبدئيين. إلا أن عدم متابعةِ الأحداث ومجريات الأمور عن قرب، وعدمَ الوقوف على طبيعة وحجم الصراع في البلاد الإسلامية وأين وصل، هو ما يجعل المرء كثيراً ما يخطئ في توصيف وتشخيص الواقع. كما يجعله لا يرى النتائجَ التي تظهر إيجابياً في الأمة، أي لا يلمس الثمار التي تحققت أو تتحقق في الأمة من خلال ما يقوم به حزب التحرير أو غيرُه من العاملين، خصوصاً إذا كان بعيداً عن فهم حقيقة وأبعاد الصراع مع الأعداء وعن ملامسةِ المتغيرات في الواقع، ولو كان من المبدئيين. وذلك لسبب بسيط هو أن النتائج فكرية وسياسية، فهي لا تلمس باليد ولا ترى بالعين إلا للمدققين، أي فقط لمن يتابع ويراقب المتغيرات في أحوال الشعوب والمجتمعات! فقد يسأل بعضهم: أين هي النتائج بعد عقود من العمل؟ فكأن السائل يريد أن يرى بناياتٍ تُقام أو طرقاً تُشق أو عشراتِ الملايين من المصلين يملأون المساجد! وهذه الحالة كثيراً ما تبعث على التشاؤم أو حتى على اليأس أحياناً، كون البشر خُلقوا من عَجلٍ، فهم يستعجلون النصر كما يستعجلون قطف الثمار. ﴿خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾[الأنبياء: 37]، أي إن الإنسان لكثرة عجلِه في أحواله كأنه خُلق منه.
فهم يستعجلون ظهور النتائج ويستعجلون النصرَ وقطف الثمار، التي قد لا يرونها على الأرض بسبب ما ذُكر، إلى درجة أنهم يُنكرون حتى على المتفائلين تفاؤلـَهم بقرب مجيء النصر أي باقتراب الفَرَج وقربِ قيام كيان المسلمين ودولتِهم، مع أن هؤلاء العاملين المتفائلين لم يحددوا في خطابهم توقيتاً لحصول التمكين أو النصر، ولا يستطيعون. وقد ينكرون على هذا الحزب أو ذاك - ولو كانوا منه أو معه - خطابَه المفعم بالأمل وحسن الرجاء، كما يُنكرون على أفراده خطابَهم المليء بالأمل والمتفائل أكثر من اللزوم بنظرهم! وهي حالة نفسية غير صحية قد يقع فيها أحياناً حاملُ الدعوة نفسُه فضلاً عن غيره، قد تُقعده عن العمل فترةً أو فتراتٍ من الزمن حينما تغلبه التساؤلاتُ عن سلامة السير بل عن صحة المنهج وربما عن أهلية مَن يقود، وتجعله يقول مثلاً: إن تغيير حال الأمة نظراً لما وصلت إليه من سوء حالها ومن جراء تسلط أعدائها وتردي أوضاعها، قد يتطلب قروناً عديدة! وقد قيل.
والسر في المسألة هو أن هذه الجماعة أو هذا الحزبَ نعم هو حزب سياسي مبدئي، ولكن مبدأه الإسلام، فلا بد شرعاً أن يكون خطابُه، مع التفاني في العمل، منسجماً مع الوحي في هذه القضية وفي غيرها، كما هو سيره ومنهجه الآن ودائماً، أي ملؤه الصدق والصبر والعزم وطول النَّفَس والأمل والتفاؤل. نعم والتفاؤل! وذلك حتى في أحلك الأوقات وأسوأ الظروف وأشد المواقف وأضعف الحالات وأصعب الأوضاع وأضيق الأحوال وأدق المراحل!
وبالرجوع إلى السيرة العطرة نجد أن هذا هو ما كان عليه الصحابةُ رضوان الله عليهم جميعاً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي هو حال المؤمنين في زمن رسول الله قبل مجيء النصر بقيام الدولة، وإن تأخر. والنصوص كثيرة في هذا الشأن. ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾، ﴿يَنصُرُ مَن يَشَاء﴾، ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾. كما يجب أن يتيقن العاملون أن تحولَ حالِ الأمة نحو ما يصبون إليه، أي باتجاه تحقيق كيان المسلمين وقيامِ دولتهم، لا ولن يتم إلا بنصر من الله وتأييد منه، ولذا يجب حصر الذهن في كيفية استجلاب هذا النصر وهذا التأييد منه وحده. وليس ذلك إلا لمن يلتزم ويثبت، أي يلتزم بالمبدأ ويثبت على الطريق، رغم كل الشدائد والصعاب ورغم وعورة الطريق. نعم يلتزم ويثبت، وإن تأخر هذا النصر والتمكين، لأن الأمر كله بيد الله. إذ لا يتحقق ذلك إلا بقوة الصلة بالله العظيم وقوةِ الارتباط بالخالق عز وجل في السر والعلانية، مع حسن التوكل والالتزام والدعاء والرجاء كما كان الرسولُ وصحابتـه في كل شأنهم.
فخطاب الحزب المبدئي للأمة يجب شرعاً أن يكون الصدق والتفاؤل والأمل والثقة التامة في نصر الله، بل وفي قرب نصر الله! فلا يصح شرعاً أن نقول للمسلمين عامةً ولا لأنفسنا إن نصرَ الله لا يزال بعيداً! ثم ما هو مقياس النجاح في حمل الدعوة والعمل؟ أهو تحقيق نتائج مادية في الواقع على الأرض؟ أم تحقيق أمور ملموسة على مستوى الأفراد بالكثرة في المجتمع؟ ثم ما هي النتائج التي يريد المستعجلون أن يروها على الأرض، ربما على مراحل قبل قيام الدولة أو بالتدرج في التطبيق كما في أذهانهم؟ علماً أن كثيراً مما يريدون رؤيته في الواقع لن يصير واقعاً إلا بعد قيام الدولةِ، أي بعد تطبيق الإسلام كاملاً وليس قبل ذلك مطلقاً!! أم إن مقياس النجاح في العمل هو مدى تحول الرأي العام في المجتمع باتجاه العودة إلى الإسلام على مستوى الحكم، أي باتجاه تحكيم الإسلام في العلاقات المجتمعية حاكماً ومحكوماً؟ أليس من النجاح في العمل إذاً الثباتُ على الطريق والتمسك على بصيرةٍ بالمبدأ مهما طال الزمن، أي حتى وإن تأخر النصر؟ وهل الغاية إلا رضوان الله والأجر والثواب والمكانة الرفيعة عند الله غداً؟ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]، أي أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ولمَّا يُصبْكم من الابتلاء مثلُ ما أصاب المؤمنين الذين مضوا من قبلكم، من الفقر والأمراض والخوف والرعب وزُلزلوا بأنواع المخاوف حتى قال رسولُهم والمؤمنون معه، على سبيل الاستعجال للنصر من الله تعالى، متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريبٌ من المؤمنين. ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].
وقد وردت لفظة "فاصبر" في آياتٍ كثيرة من القرآن المكي أي قبل التمكين وقيام الدولة في المدينة، كقوله تعالى ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾[الأحقاف: 35]. وقوله ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: 34]، أي ولقد كذَّب الكفارُ رسلاً من قبلك أرسَلهم اللهُ تعالى إلى أممهم وأوذوا في سبيله، فصبروا على ذلك ومضَوْا في دعوتهم وجهادِهم حتى أتاهم نصرُ الله. ولا مبدل لكلمات الله، التي هي ما أَنزَل على نبيه محمد e مِن وعده إياه بالنصر على مَن عاداه. ونحن حمَلةُ أمانةِ إعادةِ دولة الإسلام وتطبيقِ شريعته وحملِ رسالته على دربه سائرون، وفي ذلك عبرة لمن يريد العلاج لنفسه من داء استعجال النصر! فالعمل العمل والصبر الصبر والثبات الثبات!
وأخيراً وجب لفتُ النظر إلى أن قيامَ دولةِ الخلافة على أرض الواقع ليس بالأمر اليسير على دول العالم كلها. ولن تصمد هذه الدولةُ بعد قيامها إلا بتأييد من الله، أي إن قيام دولةِ المسلمين، بل إن نبأ قيامها سيقلب المعادلة تماماً في العالم ويغير الموقفَ الدولي رأساً على عقب! فضلاً عما سوف يتبع ذلك من أمور عظام وأحداث جسام، وما سيلقاه المسلمون عامةً من شدائدَ وما سيواجهونه من تحديات من الأعداء من كل صنف. ولهذا كان لا بد لحمَلة الدعوة من صحيح النظر في هذا الأمر الجلل من حيث الأخذ بأسباب مقوماتِ الصمود والبقاء، مع قوة إدراك عِظم المهمَّة، وما يلزم لذلك من جدٍّ وعزمٍ وعلو الهـِّمة. ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾[غافر: 51].
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع