بدأت في الخرطوم منذ يوم الاثنين 25/06/2018م، مفاوضات بين الحكومة والمعارضة في جنوب السودان، ختمت بتوقيع كل من الرئيس سلفا كير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان عن الحكومة، ورياك مشار رئيس المعارضة يوم الأربعاء 27/06/2018معلى اتفاق سلام في الخرطوم بحضور الرئيس عمر البشير المفوض من "إيقاد" لهذه المفاوضات... وسط حضور دبلوماسي وإقليمي رفيع. (27 حزيران/يونيو 2018م سودان تريبيون).
وينص الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار يبدأ بعد 72 ساعة من توقيع الإعلان، وفتح ممرات الإغاثة وإطلاق سراح المعتقلين وسحب القوات وفض الاشتباك... واتخاذ الإجراءات ليصبح الجيش والأمن أجهزة قومية بعيداً عن القبلية مع جمع السلاح من المدنيين. كما ينص على تشكيل حكومة انتقالية لمدة 36 شهرا "ثلاث سنوات"، تجرى عقبها انتخابات عامة.
ثم في يوم الجمعة 6 تموز/يوليو 2018م وقع الطرفان اتفاق الترتيبات الأمنية، بالقيادة العامة للقوات المسلحة السودانية.
وفي يوم السبت 7 تموز/يوليو 2018م من كمبالا - أوغندا، أعلن وزير الخارجية السوداني توصل الطرفين إلى اتفاق بشأن تقاسم السلطة، ينص على إبقاء كير في الرئاسة مؤقتاً، على أن يتولى "زعيم المتمردين" رياك مشار مجددا منصب نائب الرئيس.
فما هي حقيقة هذه المفاوضات السريعة؟ ومَنْ وراءها؟ وهل هي عبقرية وإدارة النظام الحاكم في السودان ومن ورائها أوغندا؟ أم أنها إملاءات أمريكية؟
إن هذا الاتفاق ليس كما تروج له الحكومة السودانية، وإعلامها المضلل حيث صوروه باعتباره نجاحا وانتصارا لإرادة النظام في الخرطوم، بل هو أحد المطالب الأمريكية التي سميت بالمسارات الخمسة التي تعتبر شروطا أمريكية للتطبيع مع حكومة السودان ورفع اسمها عما يسمى بقائمة الدول الراعية (للإرهاب).
وقد أكد القيادي الجنوبي الدكتور لوكا بيونق ذلك، حيث صرح في حوار معه نشرته صحيفة الأخبار يوم الأربعاء ٢٧/٦/٢٠١٨م. قائلاً: (كل الدلائل تشير إلى أن الحزب الحاكم في السودان أدرك بأن استمرارهم في الحكم يعتمد على تحقيق الاستقرار في جمهورية جنوب السودان).
ويظهر ذلك في مباركة القوى الاستعمارية لما تم من اتفاق، ووعودهم بتقديم الدعم الكامل لدويلة الجنوب، فقد أعلن القائم بأعمال السفارة الأمريكية في الخرطوم ستيفن كوتسيس ترحيب أمريكا بتوقيع الخرطوم للسلام، وقال: (نحن نرحب بهذا الاتفاق، وإعلان وقف إطلاق النار، الذي تمَّ لأنه يعطي الفرصة لبناء دولة). (صحيفة الأخبار الخميس ٢٨/٦/٢٠١٨م).
كما رحبت دول الترويكا الثلاث النرويج وبريطانيا وأمريكا الجمعة في بيان مشترك... ودعت إلى التنفيذ الكامل لاتفاقية وقف إطلاق النار، حيث قال البيان "إن المجتمع الدولي على استعداد لدعم العمل من قبل الإيقاد والاتحاد الإفريقي إلى وضع حد للإفلات من العقاب من خلال اتخاذ إجراءات عقابية ضد المسؤولين". (سودان تريبيون السبت 30 حزيران/يونيو 2018م)، وقال السفير البريطاني بالخرطوم عرفان صديق، ممثل دول الترويكا: (نحن كممثلين لدول الترويكا شهداء على هذا الاتفاق وسندعم كل الجهود، لإحلال السلام، في جنوب السودان). (صحيفة الأخبار الخميس ٢٨/٦/٢٠١٨م).
تكمن الخطورة في محاولة نظام البشير المستميتة لإرضاء أمريكا، فأدخل البلاد في كوارث وأزمات لا ينكرها أحد، بل البشير نفسه يعترف مدعيا ندمه على انفصال الجنوب، في أكثر من موضع ولقاء وحوار، آخرها تصريحاته خلال مخاطبته الجلسة الثانية من جولة اتفاق الخرطوم يوم الثلاثاء ٢٦/٦/٢٠١٨م حيث قال: (قسمنا السودان من أجل السلام وبكل أسف كل هذه التضحية كانت نتيجتها عدم الحصول على السلام، بل تدهورت الأوضاع بالنسبة لمواطني دولة الجنوب بصورة كبيرة، مما كانت في أيام الحرب)، فهذا اعتراف من البشير بأن انفصال الجنوب لم يكن بإرادة سياسية لتحقيق الأمن والسلام بين كل الأطراف.
ثم يأتي اتفاق الخرطوم هذا ليؤكد أن الأمر مدبر بليل على مستوى عالٍ ويؤكد ذلك بدء هذه اللقاءات بإثيوبيا ومن ثم بالخرطوم، ثم أوغندا حيث تم التوقيع على اقتسام السلطة بين الفرقاء هناك.
فاتفاق الخرطوم لم يكن الأول بين سلفاكير ومشار، فقد كانت هناك اتفاقية سلام بينهما في عام 2013م، إلا أنها انهارت سريعا، ثم تعرض الطرفان لضغوط ليوقعا اتفاق سلام آخر في 2015م، الذي كان النظام الحاكم في السودن طرفا فيه، ولم يلبث حتى انهار، والآن يدور الحديث عن خروقات إطلاق نار بين الحكومة والمعارضة، بعد اتفاق الخرطوم بأيام قليلة، لأن الوضع على الأرض ليس كما تريد الدول الاستعمارية، فهناك غبن ونعرات قبلية مستحكمة في نفوس المتقاتلين ليس من السهولة حلها بهذه السرعة المذهلة، خاصة أن كلا الطرفين غير مؤهل لرتق النسيج المجتمعي؛ لأن الحكم عندهم عبارة عن كيكة وحظوة، إضافة إلى تحريكهم من قبل القوى الاستعمارية، فقد نشر موقع سودان تريبيون السبت 30 حزيران/يونيو 2018م أن قوات مشار، اتهمت الجيش الحكومي بانتهاك وقف إطلاق النار، بعد ساعات من دخوله حيز التنفيذ، وقالت إنها تعرضت لهجوم في مبورو قرب مدينة واو، ويوم الاثنين 2 تموز/يوليو 2018م نشر الموقع عن استمرار انتهاكات وقف إطلاق النار بجنوب السودان لليوم الثاني بعد اتفاق الخرطوم، حيث أفادت أنباء لليوم الثاني بوقوع اشتباكات دموية في مناطق مختلفة في جنوب السودان، خاصة ولايتي أعالي النيل الشمالية ونهر ياي.
وقد قلل وزير الخارجية السوداني في مقابلة مع وكالة السودان للأنباء، الثلاثاء 3/7/2018م من انتهاكات اتفاق وقف إطلاق النار بجنوب السودان واعتبرها مجرد "أحداث" لا ترقى لخرق وقف العدائيات.
لذلك تتعرض الأطراف في دويلة الجنوب إلى ضغوطات كبيرة بالتهديد مرة وبالترغيب مرة للجلوس والاتفاق، حيث صرحت الإيقاد يوم الاثنين ٢/٧/٢٠١٨م بإسقاط العقاب على الخارقين لوقف إطلاق النار، في حين إن البشير المكلف باستضافة الحوار هدد أنه سيقوم بفضح من يخرق هذا الاتفاق، حيث تستخدم القوى الدولية مع الأطراف أسلوب الجزرة والعصا، لأن القضية بكل بساطة هي ممارسة ضغوط وليس إرادة سياسية، وقد عبر عن ذلك سلفاكير في 2015م حيث نشر موقع سودان تريبيون الإخباري في 26/8/2015م تحت عنوان: (سلفاكير يوقع على اتفاق السلام ويعترف بتعرضه لضغوط) قائلاً: "كنت أمام خيارين، إما التوقيع أو تستمر الدولة في الحروب". واشتكى لدى مخاطبته الحاضرين في حفل التوقيع بجوبا، من عدم "السماح لحكومته في إدخال تعديلات على مسودة اتفاقية السلام بينما أتيحت فرصة ذلك للمعارضين"، واعتبر أن الاتفاقية "مبدئية، وليست إنجيلاً أو قرآناً حتى لا تراجع".
فهذا اعتراف منه أن هناك جهات تفرض عليهم بنود وشروط الاتفاق، بل حتى السكن في الفنادق ونفقات الطعام والشراب، فكيف لهؤلاء أن يرعوا بشرا، أو يديروا دولة، فما أسوأها من حكومات وما أحقرها من أنظمة، لذلك ستظل هذه التوترات والانفلاتات في تزايد وتناقص، حتى يأذن الله لهذه الأمة بدولة محترمة تعيد السلطان للأمة فتطبق شرعه، وتحقق العدل وتبسط الأمن وتحاسب المجرمين المفسدين في الأرض، فترعى شؤون الناس بالحق.. إنها دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، ملهمة الأمم، وحامية الدين وسايسة الدنيا، وعد الله وبشرى رسوله عليه الصلاة والسلام القائل: «الإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». متفق عليه.
بقلم: الأستاذ محمد جامع (أبو أيمن)
مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع