لا شك بأن ثورة الشام قد وصلت إلى مرحلة حرجة، فبعد أن خسر الثوار مناطق شاسعة كانت بحوزتهم وسيطر النظام وحلفاؤه عليها، بعد موجات من القتل والقصف بكافة أنواع الأسلحة التقليدية والكيماوية وصنوف التنكيل التي لم تشهدها البشرية من قبل، شاركت فيها فلول النظام مدعومة من شذاذ الآفاق من المليشيات الطائفية الحاقدة إضافة لإيران وحزبها اللبناني مدعومة بآلة الإجرام الروسي الجوية والبحرية، وبمباركة رأس الكفر أمريكا عبر سكوتها عن المجرمين بل وتأييدهم من ناحية، وبين الضغط على الفصائل عبر داعميهم ليسلموا المناطق ومنعهم من القيام بأي عمل من شأنه عرقلة هذا المخطط الإجرامي الرهيب من ناحية أخرى، إضافة إلى شرعنة ذلك عبر هيئة الأمم، التي سعت جاهدة للحيلولة دون صدور مجرد إدانة للمجرمين على ما اقترفوه من جرائم القتل والتنكيل والتهجير القسري.
حتى بدا المشهد كئيباً مرعباً، هكذا أراد تصويره المجرمون وعلى رأسهم أمريكا وأدواتها، هادفين من وراء ذلك زرع اليأس في نفوس أهل الشام، ودفعهم للاستسلام للطاغية الذي خاطب الغربَ يوماً بأنه إن سقط نظامه فستسقط آخر قلاع العلمانية في بلاد المسلمين!
لكن أهل الشام برغم كل هذه الآلام والمحن لم يرفعوا الراية البيضاء التي أرادها أعداؤهم، ولم يستسلموا بل سارعت عشائر الجنوب عقب سقوط الغوطة لإصدار بيانات واضحة، ترفض كل أشكال الاستسلام للنظام المجرم أو المصالحة معه، وبدا واضحاً وحاسماً موقف الناس. ولم يقتصر الأمر في الجنوب على المناطق التي تقع خارج سيطرة النظام، بل حتى في المناطق التي تحت سيطرته، فقد تم التصدي لدعاة المصالحة وعرابيها وتصفية بعضهم، وكذلك تم التصدي لبعض المشايخ "الضفادع" ومنعهم من نفث سموم اليأس بين الناس وإبعادهم عن المنابر.
وفي هذه الأثناء استعرت الحرب النفسية التي تشنها الآلة الإعلامية المجرمة عبر أبواقها المتعددة، تساندها قوى الكفر والشر، عبر تصريحات واجتماعات ودسائس، تهدف من وراء ذلك الكيد والمكر بأهل الشام وخصوصاً أهل الجنوب، لما للجنوب من رمزية في الثورة المباركة.
فمن هذه التصريحات ما نُشر عن اجتماع في موسكو أجراه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مع نظيره في كيان يهود أفيغدور ليبرمان حيث تطرقا فيه حسب ما أُعلن إلى "قضايا حيوية ومهمة" حول التسوية في سوريا، قبل أن يُعلن الكرملين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحث هاتفياً مع نتنياهو في "بعض جوانب التسوية السورية".وقد أكد مصدر روسي لـجريدة "الحياة" أن "الاجتماع بحث عدداً من القضايا، على رأسها السماح للجيش السوري بنشر آليات ثقيلة في الجزء المحرر من الجولان مؤقتاً"، في تجاوز لاتفاقية فض الاشتباك التي وُقعت بعد حرب السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973. وأوضح أن "وجود إيران ومليشياتها في سوريا استحوذ على جزء مهم من المحادثات"، كما وأشار إلى أن مشاركة رئيس الاستخبارات العسكرية في كيان يهود تمير هايمن "هدفت أساساً إلى تبادل معلومات استخبارية حول مسلحي المعارضة في جنوب غربي سوريا، وتمركز القوات الإيرانية والمليشيات اللبنانية والأفغانية والعراقية الداعمة للأسد".
كما وتناقلت وسائل الإعلام نبأ تهديد أمريكا للنظام محذرة إياه من أي عمل في منطقة خفض التصعيد في الجنوب، الأمر الذي جعل النظام يغيِّر لهجته بعد أن كان يهدد ويتوعد أهل الجنوب بالحرب إلى توجه آخر مفاده أنه يريد أخذ الجنوب بالمصالحات وليس بالقتال!!
ثم يخرج وليد المعلم نافياً أي اتفاق حول الجنوب ومعولاً على المصالحات!!
وكذلك فقد تعالت أصوات شاذة في أوساط المعارضين تطالب أهل الجنوب بفتح معبر نصيب مع الأردن، تحت حجج واهية، المكر واضح في ثناياها!
إلا أن الحقيقة الثابتة وهي أن أهل الجنوب الذين كانوا شعلة الثورة المباركة، وشرارة انطلاقتها قبل أكثر من سبع سنين، قدموا في سبيلها الغالي والنفيس، متحدّين آلة الإجرام الرهيبة التي مُورست على أهل الشام عامةً وعليهم بشكل خاص، فتراهم اليوم قد أعلنوا موقفهم واضحاً جلياً وهو "أن لا عودة للوراء" فقد حرقوا مراكبهم وليس أمامهم إلا الاستمرار في الثورة حتى انتصارها بإذن الله، وقد أصدرت بالأمس عشائرُ مدينة درعا عاصمة الجنوب بياناً "أوضحت فيه بأن أهل الجنوب باقون علىمسيرتهم وأن من صدحت حناجرهم يوماً "يا الله ما لنا غيرك يا الله" مستمرون بثورتهم حتى النصر، وقد أعدوا أنفسهم لأسوأ الاحتمالات محذرين في الوقت نفسه دعاة المصالحة والمهادنة مرددين مقولة المجاهد عمر المختار "نحن لن نستسلم.. ننتصر أو نستشهد"!
فعلى أهل الشام أن يعلموا بأن ثباتهم على ثورتهم لهو الصخرة التي تتحطم عليها كل المؤامرات مهما عَظُم مكرها وكيدها، وليعلموا كذلك بأنهم قد أذهلوا العالم بصبرهم وثباتهم فترى المجرمين حيارى متخبطين وقد شابت رؤوس أساطينهم.
ولكن من ناحية أخرى فإن للنصر مقوماته وأسبابه، فبرغم الصمود الأسطوري في وجه أمم الكفر قاطبة إلا أن ذلك لا يمنع من الانحراف مع الوقت إذا لم تُتخذ الإجراءات الواقية الكفيلة بالحفاظ على استمرار الثورة طاهرة نقية حتى تصل إلى هدفها المنشود وهو إسقاط النظام وإقامة نظام الإسلام، وهذا الأمر يحتاج إلى قطع كل ارتباط مع هذه الدول المجرمة وأدواتها من حكام المسلمين، فها هم من ادَّعوا صداقة الشعب السوري بالأمس تراهم اليوم يعيدون للطاغية شرعيته ويمدون الجسور نحوه، ويمدونه بأسباب الحياة وهو المتهالك الساقط.
ولا نستطيع تفسير هذا التكالب من المجتمع الدولي على هذه الثورة اليتيمة بهذا الشكل الفظيع، وإقدام دول بحالها، كروسيا وإيران بأمر من أمريكا، على دفع ثمن باهظ بالتضحية بالمال والرجال والسلاح للقضاء على هذه الثورة، لا نستطيع تفسير ذلك إلا أنها حرب سافرة على الإسلام، وعلى الشريعة الإسلامية التي نادت ثورة الشام بإقامتها، لتنهي بها حقبة الحكم الجبري الذي كرّس هيمنة الغرب الكافر، وسام المسلمين سوء العذاب على مدى عقود طويلة.
ولن تستطيع هذه الثورة الوقوف في وجه هذا التكالب الدولي والانتصار عليه، إلا إذا نصروا الله ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ ونصر الله لا يكون إلا بنصر دينه وتطبيق شرعه. ويكون ذلك بتبني مشروع الخلافة التي وعد بها الله عباده المؤمنين وبشر بها سيدنا محمد r، فبها وحدها تحمى بيضة الإسلام وتصان الأعراض والدماء والأموال، وبها تُكف يد الكافر المستعمر عن العبث بخيرات المسلمين ونهبها، وتخفف عن الأمة التضحيات الجسام التي ستدفعها وتدفعها بسبب عدم وضوح الطريق أمام هذه الثورة اليتيمة!
هذا المشروع الذي قدمه حزب التحرير ليكون طوق نجاة يعيد للأمة عزتها وكرامتها ويقودها إلى النصر المبين ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
بقلم: الدكتور محمد الحوراني
عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع