لقد عمد حزبُ التحرير منذ نشأته إلى نقض ما فعله الغربُ في بلاد المسلمين على مستوى الفكر والمعتقد، وما نتج عن ذلك في الأمة من مآسٍ وعُقد! كما عمد إلى مناهضة الوجود الاستعماري الغربي في بلاد المسلمين كجزء أساسي من كفاحه السياسي وطريقة عمله. وذلك بهدف تحرير الأمة من التبعية وإنهاء نفوذ الغرب المتعددِ الأشكال في الأمة الإسلامية، وبغرض تطهيرها من براثن الكافر المستعمِر وشروره، ومن كل ضلالاته وأفكاره الدنيئة وحضارته السقيمة الزائفة. بل وإحداث نهضة شاملةٍ في الأمة الإسلاميةِ وتطهيرها من كل ما نجم عن تقزيم الإسلام العظيمِ وشريعته بعدما تم إبعادُه عن الحكم في بلاد المسلمين، بأنْ صار في أذهان المسلمين وأعمالهم طقوساً شكليةً: عباداتٍ وأخلاقاً فرديةً لا غير! مدركاً أن الفصل بين الدين والسياسة إنما هو رأس البلاء ولب المشكلةِ ومكمن الداء في الأمة. قال الله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة50]. فكان حجر الزاوية في كفاح الحزب هو التصدي لهذه العلمنة المقيتة الآتية من الغرب، وكشف خطط الاستعمار الغربي وما ينفذه عملاؤه ووكلاؤه في طول البلاد وعرضها منذ أن حلت بالأمة فاجعةُ إبعاد الإسلام عن الحكم جراء هدم دولة الخلافة، جامعةِ شمل المسلمين وحاميةِ بيضتهم. حيث صار المسلمون لأول مرة، منذ بداية القرن الماضي، يُحكَمون في بلادهم من قِبل أعدائهم!! فأي مصيبة أعظم من هذه؟؟
ولما وقع الفأس في الرأس وأدرك المسلمون - أو كثير منهم – بعد زوال خلافتهم أنهم في كرب عظيم، وأمام خطر جسيم، حل السؤال بينهم: كيف السبيل إلى التحرر وما السبيل إلى عودة الإسلامِ إلى واقع الحياة؟؟ ولكن هذه المرة، عظُم الكرب وزاد البلاء وتعقدت المشكلةُ ألف مرة، بعد أن فقد المسلمون دولتَهم!! فكان أن تضاعف كيدُ الأعداء وانتقل الكفار المستعمرون، من أجل ترسيخ الوضع القائم وحالةِ التبعية والانكسار، إلى مرحلة الحكام العملاء، بعد أن رأوا أنها آتت أكلها من قبلُ في كثير من البلاد أيام ضعفِ الدولة العثمانية، من أيام محمد علي بعد الحملة الفرنسية على مصر ومَن قبله في غيرها.
وكان ذلك الأسلوب من الاستعمار خاصةً بعد أن دخلت أمريكا الاستعمارية بقوتها الجبارة في صراعٍ مع الأوروبيين بعد الحرب العالمية الثانية، لتأخذ عنوةً "حصتها" من الغنيمة، أي من ثروات البلاد الإسلامية، بعد أن صارت هذه البلاد وأهلها وثرواتها ومقدراتها مستباحةً لكل ناهب وعابث!! وليس صدفةً أن بدأت أمريكا بأخذ أرضِ الكنانة من الإنجليز عن طريق الانقلاب في 1952م، لتتبعها بلاد أخرى. ولا غرابة أن صار قبل ذلك ليهود الأنجاس دولة على أرض فلسطين، لتكون خنجراً في وسط الأمة منذ 1948م، باعترافٍ ودعمٍ من "المجتمع الدولي"، بما في ذلك الكيانات التي أوجدها الاستعمارُ نفسه في بلاد المسلمين (!!)، وذلك بغرض ضمان التفوق وإدامة الهيمنة وإحكام القبضة وتخليد الانتصار على الأمة الإسلامية.
ثم ما أكثر ما يخطط الكفارُ لضرب الإسلام ولخداع المسلمين!
فنجد في التاريخ القريب مثلاً ما استخدمته بريطانيا الحاقدةُ على الإسلام وأهله من خُدعٍ قل نظيرها نجحت بها في إنهاء دولة الخلافة العثمانية. منها على سبيل المثال لا الحصر أنها صنعت من مصطفى كمال اليهودي العميل "بطلاً فذّاً" و"منقذاً عظيماً" في أعين المسلمين من العرب والترك وغيرهم، فانقادوا له في هدم صرح الخلافة في الأستانة، إلا فئة من المؤمنين الواعين. ومن أنجع الخُدع أيضاً أنْ رسخت في أذهان المسلمين بعد هدم الخلافة فكرةُ التوسل بإصلاح الفرد طريقاً إلى إصلاح المجتمع، وذلك لصرف الأذهان عن إعادة الخلافة! وليس الأمر كذلك (عقلاً ولا شرعاً) بأي حال من الأحوال. إذ إصلاحُ حال الأمة وتصويبُ أمرِ الجماعة يمر حتماً عبر إقامة الدولة، التي ترعى كافةَ شؤون الناس وفق أحكام الإسلام. وأن الطريق إلى ذلك شرعا إنما هو تكتل المسلمين سياسياً لإقامتها. ومنها أيضاً أنها وعدت العربَ بالاستقلال عن الأتراك "المستبدين" فآزروها على دولة الخلافة العثمانية فيما سمي بـ"الثورة العربية الكبرى" خلال الحرب العالمية الأولى في 1916م!! وكانت النتيجة وبالاً وفرقةً ودماراً وذلةً واستعماراً! وكان ذلك من أنجع الأساليب الشيطانية التي استخدمها الإنجليزُ في عملية الإجهاز على الدولة العثمانية. ومن خداع الكفار الغربيين أيضاً الاستقلالاتُ الزائفة (الدول الوطنية)، والحركاتُ الواقعية، والجامعةُ العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ورابطةُ العالم الإسلامي وحكمُ آل سعود في الحجاز ونجد... وغير ذلك كثير لا يحصى.
ولما جاء الاستعمارُ الأمريكي إلى المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، استخدم هو الآخر خُدعاً لا تحصى ولا تعد أيضاً، اعتمد عليها في صراعه مع الأمة الإسلامية من أجل إخضاعها وإدامة محنتها. فالأمم المتحدة مثلاً خُدعة، وفكرة "المجتمع الدولي"، والذي هو في الحقيقة مؤامرة غربية كبرى على الإنسانية وعلى الإسلام والمسلمين خاصة، أيضاً خُدعة. وفكرة مكافحة (الإرهاب) و"عداء" أمريكا المزعوم للنظام السوري منذ عقود، وكذلك "عداؤها" لنظام إيران وروسيا فيما يجري هذه الأيام في الشام وفكرة "أصدقاء الشعب السوري" ووعود أمريكا لأكراد سوريا والعراق كل ذلك خُدَع وأكاذيب. كما أن المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا وأردوغان ودوره في سوريا ونهجه ونظامه في تركيا، ونظام السيسي ومَن قبله في مصر الكنانة وحكم البشير في السودان أيضاً خُدعٌ أمريكية!! كما أن الطائفية المقيتة تشكل أحد أهم أساليب أمريكا لبث الفرقة بين المسلمين خدمةً لسياستها وتنفيذ مشاريعها في بلاد المسلمين هذه الأيام، وذلك عن طريق الحكام الظلمة والعملاء الخونة.
ولكن ألا يجدر بنا أن نطرح السؤال الآتي: إلى متى تنطلي خُدعُ الغرب على المسلمين؟! وما السر في أن هذا الغرب يجد دائماً مِن بين المسلمين مَن يؤازره وينفذ له خططَه في بلاد المسلمين على حساب الأمة وشعوبها، بينما جنايات الغرب المستعمر ماثلة أمام أعين المسلمين؟.. والله تعالى يقول:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[المائدة: 51]. ويقول أيضاً: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[الممتحنة: 9].
ولا ريب أن الجواب على ذلك يكمن حتماً في غياب حصن المسلمين، أي دولة الخلافة. ولا شك أن غياب الوعي السياسي في الأمة بسبب بعدها عن دينها ومبدئها هو ما أدى إلى هبوطها ثم سقوطها. وأن لبريطانيا والدول الأوروبية الحظ الأوفر في تلك الجريمة النكراء.
ومن تلك الخُدع أيضاً أننا نحن المسلمين انطلت علينا خُدعة غربية أخرى هي ربما أشد من كل التي ذُكرت جميعاً، وهي خُدعة أن الحكام في أوطاننا (المستقلة) هم منا، وأنهم إنما استهواهم الغربُ وكسبهم نفعياً ومصلحياً وصاروا يخدمون مصالحه على حساب شعوبهم! وأن الأمل لأجل صلاح الأمة وانتظام شؤونها معقود على عودتهم للجادة، وأن الخلاص إنما يكون في طاعتهم بل ومشاركتهم وعدم الإنكار عليهم بحجة الحفاظ على سلامة الأرواح وأمن البلاد واستقرار الأوطان، فضلاً عن عدم خلعهم والخروج عليهم.
والحقيقة المفزعة والمروعة هي أن الغرب الكافر المستعمِر هو من صنعهم جميعاً أي هيأهم ابتداءً لهذه الأدوار، أي لحكم الشعوب الإسلامية، بوضعها في أقفاص هذه الكيانات الوطنية الوضيعة التابعة التي أوجدها هو على أنقاض دولة الخلافة! علماً أن ما ذُكر من خُدعةٍ في شأن الحكام العملاء ينطبق أيضاً إلى حد التطابق على العلماء المأجورين الذين هم صنائع الحكام في مختبراتهم بل هم تَـبَعُ لهم بحكم الوظيفة، أي من حيث المهام والأدوار الموكلة إليهم!! فلا غرابة بعدئذ فيما تعيشه الأمةُ السجينة من انتكاسة مُرعبةٍ ومن أوضاع غايةً في الاضطراب على جميع المستويات في كنف هؤلاء الحكام الأقزام وأشياعهم منذ عقود.
وإذْ هم في خدمة الغرب على هذه الشاكلة، وإذ هم في صف أعداء الأمة فكراً وشعوراً، بل في خدمة دولِ الكفر على درب الخيانة ظاهراً وباطناً، ولا سبيل لإلزامهم وحملهم على الحكم بالإسلام وتطبيق الشريعةِ في الحال نظراً لارتباطهم الوثيق بأسيادهم في الغرب، فلا مناص من خلعهم شرعاً، وذلك عبر تكتل المسلمين سياسياً على طريقة رسول الله واستجابةً لأمر الله - بغرض إقامة مَن يُقيم الدينَ مكانهم، وذلك عن طريق الأمة ونصرةِ أهل القوة من أبنائها، وهو خليفة المسلمين.
وإذ هم خدَم لعدو الإسلامِ على هذه الشاكلة، فهل يصح أن يُنتظر منهم خير للأمة الإسلامية وهم جميعاً عملاء ووكلاء للغرب الكافر مخلصون له فيما جرت تهيئـتُهم له؟؟ وهل بعد هذا الفهم إلا عمالة وخيانة أو سذاجة مفرطة وتبعية وانحطاط مفزع!!
بقلم: صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع