تسعة عشر عاماً، والسودان يرزح تحت العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وفي 3 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، جدد الرئيس الأمريكي، العمل بقانون الطوارئ الوطني المفروض على السودان منذ 1997م، في رسالته للكونغرس، حيث أشار أوباما إلى أن هذا التجديد هو (توسعة) لنطاق القانون المعني، ليشمل ممتلكات بعض المسئولين السودانيين، المتورطين في الصراع بدارفور، وأوضح أوباما أن الوضع في دارفور يشكل "تهديداً غير عادي"، واستثنائياً للأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية، مشدداً على تمديد العمل بهذا القانون، على خلفية تصرفات وسياسات وممارسات الحكومة السودانية.
وكشف أوباما للكونغرس أن سياسات وممارسات الحكومة السودانية ما زالت تشكل تهديداً غير عادي واستثنائي للأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية، وأردف: (لذا قررت أن من الضروري مواصلة حالة الطوارئ الوطنية المعلنة، فيما يتعلق بالسودان، والحفاظ على القوة لفرض عقوبات ضد السودان، للرد على هذه التهديدات).
لقد شهد عام 1989م أول عقوبات أمريكية ضد السودان، وفي العام 1993م، تمت إضافة السودان لقائمة الدول الراعية للإرهاب، غير أن الأمر قد أخذ منحى العقوبات الاقتصادية، ففي 3/11/1997م صدرت عقوبات شاملة على السودان من قبل الرئيس بيل كلنتون، وأصبحت مذ ذاك الوقت تجدد سنوياً بموجب القرار (13067)، وتبعه قرار آخر صدر في العام 2006م استهدف منع أشخاص من التواصل مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى قرار آخر في العام ذاته، ينص على حجر الأصول والأرصدة وممتلكات حكومة السودان، ومنع تصدير السلع والتكنولوجيا، عدا الإغاثات، ومنع الجهات المالية والشركات من التعاقد مع حكومة السودان. وفي نهاية أيار/مايو 2007م وسّع الرئيس بوش الابن الحظر الأمريكي، وحظر أشخاصاً من الدخول إلى أمريكا، بالإضافة إلى (31) شركة حكومية، إلى أن جاء قرار أوباما الأخير بتجديد العقوبات وتوسيعها على الحكومة السودانية.
من جانبها، رفضت الخارجية السودانية في بيان لها تجديد هذه العقوبات، واعتبرتها عقوبات سياسية، القصد منها الإضرار بمصالح شعب السودان الحيوية، وممارسة الضغط على حكومته لتقديم تنازلات بشأن مواقفها السياسية، خاصة تلك التي تتصل بمشاريع الهيمنة الأمريكية في المنطقة. وقد تركت هذه العقوبات أثرها على السودان، ففي العام 2013م، وفي الندوة التي أقامتها عدد من المنظمات الاستشارية العاملة بالأمم المتحدة، وبالتعاون مع مركز دراسات المجتمع، بمركز الشهيد الزبير الدولي للمؤتمرات، تحدث فيها مدير الإدارة الأمريكية بوزارة الخارجية، كشف فيها عن أرقام صادرة عن موقع الخزانة الأمريكية، أنه في الفترة من (2000 - 2008م)، رفض مكتب الإجراءات حوالي 5777 تحويلة مالية تبلغ قيمتها (745) مليون دولار، بالإضافة إلى أصول حكومية تبلغ قيمتها (48) مليون دولار، وأقر بتأثر الاقتصاد السوداني بالعقوبات الأمريكية، والتي حدت من مقدرته على التحرك والتكامل مع مؤسسات التمويل الدولية، وإعاقة السودان من حشد التمويل من المانحين لبرامجه، وعدم الاستفادة من مبادرة إعفاء الدول المثقلة بالديون، التي أدرجت (36) دولة منها السودان، كما أدى لفشل شركة الخطوط الجوية السودانية، لأن اعتمادها هو على طائرات البوينغ الأمريكية، وأدى في نهاية المطاف إلى انهيارها كلية. بالإضافة إلى حظر التقانة الأمريكية المتقدمة، في مجالات الزراعة والمياه، واستخراج النفط، والاتصالات، أدى إلى هدر كبير في الموارد، بجانب حظر التعاملات المصرفية على وجه الخصوص لزيادة الفساد في مجال المشتريات، لأن الكثير من المؤسسات الحكومية والخاصة تضطر للتعامل عبر الوسطاء لاستجلاب التقانات، وقطع الغيار الأمريكية.
تسعة عشر عاماً من العقوبات، في حين إن الحكومة طردت (أسامة بن لادن رحمه الله، وأخرجت جماعة حماس من السودان، (طبعاً) بطلب من الإدارة الأمريكية، وتعاونها الكامل مع المخابرات الأمريكية (سي آي إيه)، وبخاصة في عهد مدير المخابرات السابق الفريق (صلاح قوش)، واعتراف الحكومة بهذا التعاون، وقد صرح بذلك وزير الخارجية الحالي (إبراهيم غندور)، في صحيفة السوداني الإلكترونية حيث قال: (إن هذا التعاون قديم قديم، ولكنه توقف لفترة، والآن عاد)، وقال: (قدم السودان مساعدات كبيرة عبر التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر الشهيرة).
وأكد هذا المنحى رئيس الجمهورية البشير، في لقاء نقلته قناة الجزيرة، حيث ذكر أن أمريكا وعدتهم برفع العقوبات إذا وقعوا على اتفاق ميشاكوس الإطاري، ولكن لم يحدث شيء، وقال: (لقد اتصل بي جورج بوش شخصياً، وأكد لي أنهم سيوفون بوعودهم إذا تم الاستفتاء في جنوب السودان، وقد تم الاستفتاء، ولم يفوا بوعودهم)، فقال المذيع أحمد منصور للبشير، وبلهجة سودانية: "ولا جزرة ما في، عصا بس).
وقد ذكر البيان الذي صدر عن الخارجية السودانية عقب إجازة العقوبات: (أن تقارير الإرهاب التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية سنوياً منذ عام 2002م، تؤكد على حقيقة تعاون السودان التام مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب... لقد أقر المسئولون الأمريكيون أنفسهم بأن بقاء السودان في تلك القائمة، إنما يعود لأسباب سياسية ليست لها علاقة بالإرهاب). وإن الدبلوماسيين الأمريكيين أنفسهم، اعترفوا بتعاون السودان مع الحكومة الأمريكية، ففي بيان وزير الخارجية الأمريكي في 12/09/2016م قال: (في الأشهر الأخيرة اتخذت السودان خطوات مهمة في مواجهة داعش، وغيرها من الجماعات الإرهابية، وسعت لمنع حركتهم من وإلى السودان... إن استمرار تعاون السودان يعزز الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب).
بعد كل هذه الاعترافات بتعاون السودان، بل الانصياع الكامل لأوامر أمريكا، لم تتحرك أمريكا قيد أنملة من الإصرار على استمرار العقوبات، فقد أبطل الكونغرس مشروعاً وقع عليه 100 ألف شخص يطالبون فيه رفع العقوبات عن السودان، موصياً بتحويل العريضة إلى الأرشيف لعدم نزاهة العمل الذي وصف بأن الحكومة السودانية هي التي عبأت الناس.
إن التعنت الأمريكي هذا قد شرحه وزير الخارجية جون كيري في تشرين الأول/أكتوبر 2015م: (إن الولايات المتحدة لن تقدم على تنفيذ أي خطوة من شأنها رفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب إلا بعد أن يحدث تقدم في حل الأزمة في كل من إقليم دارفور، وجنوب كردفان والنيل الأزرق، استناداً لمحددات محسوبة تتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية كنتاج لهذه الوثيقة)، وفي سياق متصل قالت مصادر أمريكية مطلعة: (إن واشنطن اشترطت على الحكومة السودانية إيقاف الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق... وتشكيل حكومة وحدة وطنية تسمح بمشاركة جميع المعارضين بلا استثناء لرفع العقوبات عن السودان).
إن الأمر في غاية الوضوح والذي تسعى له أمريكا عبر الحوار الوطني، وهو تكوين حكومة موسعة، علمانية، وإبعاد شعارات الإسلام، ووضع حكم فدرالي، يكون نواة لتفتيت ما تبقى من السودان إلى دويلات. هذه هي الاستراتيجية الأمريكية التي يتحدث عنها جون كيري، وسوف لن تجد الحكومة، ولا جزرة واحدة من عدو الأمة أمريكا.
رأيك في الموضوع