لقد وقعت اليونان فريسة للثلاثي الظالم: صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية. حيث فرضت هذه الثلاثية على اليونان بيع ما تملكه الحكومة من حصص في مؤسسات سيادية في الدولة تحت ذريعة إنقاذ الاقتصاد المتهالك. وقد صرح المفوض الأوروبي هوزي مانويل بروسو بأن سياسة بروكسل في إسداء القروض وفرض الشروط تسلب الدول سيادتها على ممتلكاتها. وقد أكدت المستشارة الألمانية هذه الحقيقة بقولها أن على دول المجموعة الأوروبية أن تسلم سيادتها القومية لبروكسل فيما يتعلق بسياستها الاقتصادية وميزانيتها وسياسة العمل والضرائب. وقد أصرت ألمانيا تحديدا على إجراء عمليات خصخصة شاملة في اليونان من أجل الاستمرار في دعم اليونان في القروض تفاديا لانهيار الاقتصاد اليوناني. ومن المقرر أن تخضع لسياسة الخصخصة في اليونان قطاعات الطاقة ممثلة بمؤسسات الغاز والبترول، وقطاعات الماء في سالونيك وأثينا، وقطاع المواصلات ممثلا بمطار أثينا والمطارات الداخلية والقطارات، وقطاع البريد والصناعات العسكرية. ومن المتوقع أن لا توفر مبيعات هذه القطاعات أكثر من 25 مليار يورو بدلا من 50 مليار يورو كان من المتوقع سابقا. وقد علق بول كروجمان الحائز على جائزة نوبل بقوله إن هذه الإجراءات تشبه تلك التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد قبل عقود عدة على دول الجنوب والتي كانت بمثابة عقوبة قاسية للفقراء ومكافأة للأغنياء الذين زاد ثراؤهم على حساب ممتلكات الشعب التي بيعت بثمن بخس. ثم يقول كروجمان إن الأزمات التي تجتاح اليونان وغيرها من الدول الأوروبية كان من المفروض أن تضع نهاية للتحرر الاقتصادي الحديث (neoliberalism) إلا أن العكس هو الصحيح فقد استغل الرأسماليون بدون أي قيم خُلُقية هذه الأزمات لتعميق التحرر الاقتصادي والاستيلاء على ثروات الشعوب بكل معاني الجشع والطمع.
لقد أوكلت المفوضية الأوروبية عمليات الخصخصة في اليونان إلى صندوق تنمية مقدرات الجمهورية الهيليني (Hellenic Republic Assest Development Fund TAIPED) ويشبه هذا الصندوق وكالة تريهانسلت الألمانية التي تولت أمر خصخصة ممتلكات ألمانيا الشرقية بعد توحيدها مع ألمانيا الغربية. وقد عملت الوكالة الألمانية على مدار سنين على إثراء شركات ألمانيا الكبرى بمئات المليارات على حساب ممتلكات الشعب في ألمانيا بدون مقابل تقريبا. وكانت نتيجة تلك الخصخصات أن انخفض الإنتاج الصناعي في الجزء الشرقي من ألمانيا إلى الثلث وزادت البطالة بين فئة الشباب ووصلت إلى 65% بين النساء، وتضاعفت الجريمة 3 مرات وانخفضت نسبة المواليد بأكثر من 55%. ويعلق مسؤول خطة الخصخصة اليوناني على ذلك بقوله إن اليونان لن يكون أفضل حالا من سابقته في ألمانيا الشرقية، وقد بدأت اليونان تكتوي بنيران الخصخصة؛ إذ زادت نسبة الانتحار بمعدل حالتين كل يوم منذ بداية إجراءات الخصخصة والتقشف وزيادة الضرائب. ويذكر أن اليونان من أكثر الدول في أوروبا التي تعتمد على الوظائف الحكومية لتشغيل العاملين، ما يعني أن نسبة البطالة في اليونان سوف تزيد عما هي عليه اليوم والتي زادت عن 25%.
ومما لا شك فيه أن تحرير الاقتصاد والخصخصة وإجراءات التقشف ليست علاجا لأزمة اليونان، إنما هي وَصْفات المرابين وتجار المال لشراء مقدرات الدول بثمن بخس كما حصل في السابق مع دول أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، والتي لا تزال ترزح تحت نير ديون البنك وصندوق النقد الدوليين. ليست هناك حالة واحدة تبين أن وصفات الصندوق وإجراءات التقشف والخصخصة قد أدت إلى انتعاش أو تحسن في اقتصاديات الدول. بل إن كل ما يتوفر من معلومات يدل على أن الفقر يزداد كلما رضخت الدول لإجراءات المرابين ووصفاتهم المميتة. والأشد ضيرا من ذلك أن الحكومات التي تتربع على عروش الدول تتآمر مع المرابين الكبار والدول العظمى على مقدرات شعوبها. فالشعب في اليونان صوت بالأغلبية على عدم الرضوخ لقرارات ألمانيا من خلال المفوضية الأوروبية، إلا أن رئيس الوزراء قد استغل التصويت وقال إن هذا بمثابة تفويض له ليفعل ما يشاء وعمد إلى الرضوخ المذل لقرارات الثلاثي الظالم (صندوق النقد والبنك الأوروبي والمفوضية). وهذا تماما ما جرى في مصر إبان حكم السادات ومبارك والسيسي اليوم، وما جرى في الأردن وتونس والمغرب، وما يجري الآن جهارا نهارا في اليمن وليبيا ومصر وتونس. قروض سخية تأتي للإنفاق على مشاريع استهلاكية كالطرق والموانئ والمطارات، ترهق الدول بالديون، ثم تعجز عن سدادها، ثم تأتي البنوك والدول الدائنة لتشتريها بأقل من 10% من الثمن الذي أقرضته هذه الدول لبناء هذه المؤسسات. ومن الطرائف أن صندوق النقد كان قد أقرض تشيلي قبل 20 عاما أكثر من مليار دولار لبناء شبكة سكك حديدية ثم عادت تشيلي وباعت الشبكة بأقل من 100 مليون للدائنين أنفسهم، ما ترتب عليها خسارة 900 مليون إضافة إلى "فوائدها" الجمة.
وليس صحيحا أن الشعوب لا تعتبر بغيرها، بل إن الصحيح هو أن الحكومات العميلة رؤساء وملوكاً وأمراء وأنظمتهم العفنة هي التي تتآمر على شعوب مضطهدة مقهورة، يبيعون مقدراتها في سوق النخاسة، ويسومونها سوء العذاب، يفقرون أبناءهم، وينهبون أموالهم، وهم في هذا كما قال الشاعر: لا يلام الذئب في عدوانه *** إن يك الراعي عدو الغنم. ومع ذلك فإن الشعوب ينالها إثم السكوت على هؤلاء العملاء وسماسرة الحكم. وإن كان الشعب في البلاد العربية قد بدأ ثورته على الظلم والتعسف، إلا أنه قد ضل طريق النجاة والهدى وعاد كالمغشي عليه يرتطم بأعمدة البنك الدولي وصندوق النقد الممتدة في كل مكان والمسلحة بالعملاء من كل جانب. وكان وما زال على الشعب أن يهتدي إلى النظام الذي يعتقها كليا من ربقة الاستغلال والاستعباد والذل. وهل غير العبودية لله تحرر الإنسان من العبودية للطاغوت؟؟
رأيك في الموضوع