تشهد الساحة الشامية في هذه الأيام تطورات لافتة للنظر، فأبرز هذه التطورات: التدخل العسكري التركي في سوريا والعراق، وإعلان تركيا عن إبرام اتفاق مع أمريكا لفتح قاعدة إنجرليك لطائراتها التي تقوم بعمليات في سوريا والعراق وإعلانها الحرب على تنظيم الدولة وعلى حزب العمال الكردستاني. وتزامن ذلك مع إعلان "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوري" و"هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي" عن التوصل لخارطة طريق تتعلق بمستقبل سوريا. وكذلك إعلان دي ميستورا عن مقترحات جديدة لمجلس الأمن. وإشارة بشار الأسد في خطابه إلى التنازل عن مناطق مقابل السيطرة على مناطق أكثر أهمية.
وهذه التطورات المتلاحقة ليست بعيدة عن عبث أمريكا بالثورة السورية وعملها المتواصل لوأدها، وحرفها عن مسارها وتثبيت نظامها العميل في سوريا، لحين إيجاد عميل بديل.
والمشهد الميداني في سوريا يشهد حالة من التوازن المحسوب بين كافة الأطراف، وهذا التوازن القائم يضمن بقاء نظام الأسد، أو على الأقل يضمن عدم انفلات الأمور في سوريا فتخرج من يد أمريكا، والمتابع للأحداث المتتالية في سوريا وما حولها يرى أن المعارك عندما تتسارع باتجاه تحقيق الثوار نتائج ملموسة على الأرض تخل بحالة التوازن، تبادر أمريكا بأسلوب ما لاستدراك هذه الحالة وضبطها حتى لا تفلت الأمور من عقالها.
فبخصوص التدخل العسكري التركي، فمن المعلوم أن تركيا قد وضعت شروطا للمشاركة في التحالف الدولي (وتتضمن هذه الشروط، إقامة منطقة آمنة، وتطبيق حظر للطيران السوري وتدريب وتسليح المعارضة السورية المعتدلة، حسب وصف أردوغان، وكذلك القيام بعمليات عسكرية ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بهدف إسقاطه.وقال الرئيس التركي إن بلاده لن تتنازل عن هذه المطالب التي عرضتها كشروط لمشاركتها في عمليات التحالف الدولي.) (موقع الحرة 19/10/2014)
وهذه الشروط التي قال أردوغان إن بلاده لن تتنازل عنها، ابتلعها أردوغان وحكومته بعد اتصال هاتفي أجراه أوباما مع أردوغان في أعقاب تفجير سوروج، لتعلن الحكومة التركية فيما بعد عن بدء الحرب على "تنظيم الدولة" وعلى حزب العمال الكردستاني في آن واحد، وقد مارست الحكومة التركية التضليل بخصوص اتفاقها مع أمريكا فأدرج مسئولوها في حديثهم عن الاتفاق مع أمريكا الحديث عن إنشاء مناطق آمنة،ونشرت تقارير أمريكية تتحدث عن وجود مثل هذا الاتفاق، فقد ذكر موقع بي بي سي في 27/7/2015 (اتفقت الولايات المتحدة وتركيا، حسبما تقول التقارير، على إنشاء منطقة عازلةعلى الحدود السورية التركية يُطرد منها مسلحو تنظيم "الدولة الإسلامية".وتهدف المنطقة العازلة إلى ضمان أمن واستقرار دول المنطقة، وفقا لما ذكره مسؤولون أمريكيون... ونقلت وكالة أسوشيتد برس أيضا عن مسؤول أمريكي قوله إن إنشاء منطقة خالية من تنظيم "الدولة الإسلامية" سيعزز من استقرار الحدود التركية السورية.)
وقد اتضحت طبيعة هذه المنطقة بما ورد على لسان الناطق باسم الخارجية التركية تانجو بيلتش لـ«الشرق الأوسط» في 30/7/2015 "إن أنقرة اتفقت مع الأمريكيين على خلق منطقة «من دون مخاطر»، قائلا إن هذه المنطقة بالمفهوم التركي ليست «مناطق آمنة». وأكد أنه ليس في الحسابات التركية حاليا دخول الأراضي السورية، مشيرا إلى أن هذه المنطقة سوف تفرض بقوة النار التركية، سواء بالضربات الجوية أو بدعم الجيش السوري الحر، وهكذا تتحول هذه المناطق إلى مناطق آمنة فيما بعد تكون صالحة لاستضافة اللاجئين السوريين. وشدد المسؤول التركي على أن بلاده لا تريد تنظيم الدولة أو أي منظمة إرهابية أخرى جارة لها، مشيرا إلى أن العمليات التركية سوف تستمر حتى تحقيق أهدافها.)
(المنطقة الآمنة المفترضة بحسب صحيفة الشرق الأوسط نقلا عن أ.ف.ب)
ويبدو أن تقدم الميليشيات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في شمال سوريا وبخاصة في مدينة تل أبيض ومحيطها، دفع تركيا بموافقة أمريكية لتنفيذ عملية عسكرية المقصود منها الحيلولة دون قيام منطقة كردية متصلة على الحدود التركية، وقد كانت قوى تنظيم الدولة تشكل فاصلا بين المناطق ذات الغالبية الكردية، وتراجع هذه القوى يفتح الباب لقيام كيان كردي على طول الحدود مع تركيا، وهذا يشكل تهديدا خطيرا بالنسبة لتركيا.
ومن الجدير ذكره هنا أن المسألة الكردية منفذ حساس، ونقطة ضغط مفصلية بالنسبة لتركيا، ويظهر أن الورقة الكردية ليست بمأمن بالنسبة لأمريكا من أن تكون مدخلا لتعكير صفو نفوذها في تركيا وحتى في سوريا؛ فقد صرح نجيرفان برزاني بحسب وكالة الأنباء العراقية في 26/7/2015 "للأسف جاءت عمليات القصف الجوي والمدفعي لتركيا بعد أن أعلن رئيس منظومة المجتمع الكردستاني أن الهدنة وعملية السلام مع تركيا قد انتهت، وأن عبد الله أوجلان وحزب الشعوب الديمقراطي ليس من حقهما أن يطالبا الحزب بإلقاء السلاح"، مبينا أن "هذا التصريح قلل من دور الآخرين في مشروع عملية السلام وكان له تأثير على الرأي العام في تركيا وشكل ضغطاً على الحكومة التركية أيضا"، وقد كان أردوغان يعول على ورقة أوجلان وحزب الشعوب الديمقراطي، كما نشر موقع (aranews.org) في 5/7/2015 (عقد يوم أمس الجمعة في مدينة أورفا جنوب شرقي تركيا لقاءٌ بين وفد من وزارة الخارجية البريطانية، وعدد من المؤسسات المدنية السورية حول الأوضاع في مدينة تل أبيض... "البريطانيون، يؤكدون بأنها فرصة ثمينة، وقيمة، لاختبار مدى القدرة على المشاركة والإدارة، وضرورة الابتعاد عن المطلق، والتوجه نحو التشاركية، كما أنهم يؤكدون على استعدادهم لتقديم المساعدات الإنسانية، والجانب الخدمي والمدني" ... و"ناقشوا التحديات والعوائق التي يمكن أن تعيق العملية وحدوها بالتحدي الأمني، والاختراقات، والألغام، والاغتيالات" .."وحول إمكانية عودة المجلس القديم، اتفق الجميع على أن "المجلس القديم أخذ فرصته لعامين، وخلال عملكم حدث الكثير من الإشكاليات وأبرزها ظهور تنظيم الدولة، وعملية التهجير، وضرورة إشراك وفسح مجال جديد، وضرورة مشاركة المرأة والفئات الشبابية".
فالواقع أن العملية العسكرية التركية لم تكن خارج سياق التوازن الذي تحاول أمريكا المحافظة عليه لحين الانتهاء من ترتيب وضع نظامها العميل، ومن الغباء السياسي أن يعول البعض على أن التدخل التركي سيصب في مصلحة الثورة السورية، لأنه تدخل محسوب وموزون بأوامر أمريكية.
أما مقترحات دي ميستورا فهي مجرد تقطيع للوقت فقد طلب (دعوة السوريين للمشاركة في مجموعات عمل تشرف عليها المنظمة الدولية لحل أربع قضايا كبرى في ظل عدم استعداد أطراف الصراع لإجراء مفاوضات سلام رسمية. وقال دي ميستورا في خطابه أمام مجلس الأمن الدولي الأربعاء إنه يتعين على الأطراف السورية بدء المحادثات مع بعضهم البعض، واتخاذ قرار بشأن كيفية المضي قدما بشأن كيفية تنفيذ بيان جنيف عام 2012، والذي وضع أسس عملية السلام في سوريا) وقد قال في خطابه "العديد منهم أبلغونا بعدم الدعوة إلى مؤتمر جنيف-3 لأن الأوضاع لم تنضج بعد"، فحتى تنضج الأوضاع وتتمكن أمريكا من الوصول إلى مبتغاها، طرح مقترحاته لكسب الوقت وإبقاء مؤتمر جنيف تحت أجهزة الإنعاش بدلا من إعلان وفاته رسميا.
وهذا يحتاج من القوى التي صنعتها أمريكا "الائتلاف" و"هيئة التنسيق" التفاعل مع مقترحات دي ميستورا، فاجتمعا واتفقا في يومين، ليكونا جاهزين لتقمص الدور المطلوب منهما، وواقعهما أن الثورة في واد وهما في واد، وإنما هما دمى تحت الطلب!
وأما ما ورد في خطاب بشار الأسد وقوله "أحيانا نضطر في بعض الظروف أن نتخلى عن مناطق من أجل نقل تلك القوات إلى المناطق التي نريد أن نتمسك بها". ..."نوع الحرب التي نخوضها اليوم لا يمكن القوات المسلحة أن تتواجد في كل بقعة من الأرض السورية. هذا يسمح للإرهابيين بالدخول إلى مناطق يضربون الاستقرار فيها حتى يأتي الجيش السوري ويحررها وهذا شيء يحصل بشكل مستمر منذ بداية الأحداث." وتابع "لا بد من تحديد مناطق هامة تتمسك بها القوات المسلحة لكي لا تسمح بانهيار باقي المناطق." فهذا تبرير منه للخسائر المتوالية لمليشياته، وتبرير مستقبلي لانسحابات متوقعة أكثر خطورة من ذي قبل، ولعل ما يجري في الجنوب السوري وما يشاع من ترتيبات أمريكية يجري الإعداد لها عبر غرفة "الموك" تشي باحتمالية أن تقوم أمريكا بترتيب وضع الجنوب لتخفيف الأعباء عن جيش بشار المتضعضع، وميليشا حزب إيران المنهكة، وذلك لتمكينهم من تحقيق انتصارات في مناطق أكثر حساسية من مثل القلمون والزبداني التي أنهكت قوى حزب إيران وكبدته خسائر كبيرة.
والحاصل أن الأحداث في سوريا ما زالت في مخاض عسير، تتسابق فيه قوى الكفر لإجهاض مولود مرتقب أو تشويهه، وبالرغم من عظم الكيد والمكر الذي تكيده أمريكا وأذنابها، وسقوط الكثيرين في فخ الانحراف والتنازل، حتى عرض البعض نفسه في سوق النخاسة علنا في الصحف الأمريكية والبريطانية، إذ ضاقوا ذرعا بلباس "أحرار"، بالرغم من ذلك كله فإن الأمل قائم بأن يسير المخلصون من أبناء الثورة في ركب "التحرير" وتحت رايته ولوائه إلى أن يمنّ الله سبحانه على الأمة الإسلامية بخلافة راشدة حقا على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع