لقد لوحظ أنه قبل أن يجف حبر الاتفاق النهائي حول البرنامج الإيراني النووي بين إيران ومجموعة "5 + 1" يوم 14/7/2015 في فينا بالنمسا حتى بدأ مسؤولو الدول الأوروبية الثلاث الموقعة بالتسابق لزيارة إيران وإعادة العلاقات معها. ومع أن فرنسا كانت من أكثر الدول اعتراضا على الاتفاق النووي إلا أنها كانت من أكثر الدول مسارعة للإعلان عن زيارة إيران. ولكن ألمانيا سارعت وسبقتها عندما أرسلت نائب رئيسة وزرائها ووزير الاقتصاد والطاقة على رأس وفد يمثل 60 شركة من كبريات الشركات الألمانية، وأعلنت بريطانيا أنها سوف تعيد فتح سفارتها في طهران. فكل ذلك يثير التساؤل عن سر هذا التحرك الأوروبي السريع وكشف أهدافه.
ولإدراك ذلك يجب أن ننظر أولا في محتوى هذا الاتفاق، فنرى أنه قد حد من قدرة إيران على إنتاج السلاح النووي؛ وقدّمت إيران تنازلات مؤلمة، "وقد تمت الإشارة بتفصيل إلى هذا الأمر في العدد السابق من جريدة الراية".. ولذلك فعلى هذا الصعيد، فإن الاتفاق بهذه الصيغة يعد نصرا للأوروبيين كما هو نصر لأمريكا وهزيمة لإيران، ولذلك لم تكن مستغربة تلك المواقف الأوروبية وخاصة التي وقعت الاتفاق، أي فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وقد تبنت الاتفاق ومعها كافة الأوروبيين وبدأوا يدافعون عنه بحرارة، فصرحت مسؤولة العلاقات الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي فديريكا موغيريني قائلة: "إن الاتفاق حدث تاريخي وصفقة جيدة، وهو ينص على سلمية البرنامج النووي الإيراني وعلى حزمة من التدابير التي تضمن أن لا تسعى إيران إلى إجراء بحوث أو تطوير برامج تمكنها من الحصول على سلاح نووي، وإنه ليس نهاية، بل هو بداية العمل لمرحلة من التعاون المشترك بين إيران والأطراف الدولية".
والنقطة الثانية أن الأوروبيين لم يريدوا أن تسبقهم أمريكا إلى إيران وتستحوذ على كل شيء، وقد أيقنوا أنهم لن يستطيعوا أن يعطلوا الاتفاق عندما رأوا إصرار الإدارة الأمريكية على توقيعه مهما كانت المعارضة الداخلية والخارجية، وقد رمت أمريكا بكل ثقلها لتحقيقه، وأصبح وزير خارجيتها مشغولا بذلك لمدة ثلاثة أسابيع عدا الاتصالات الأخرى، فقد أدركوا مغزى أمريكا من ذلك وما ستجنيه من مكاسب ومغانم من جراء توقيعه، وأمريكا سوف تستخدم إيران ضد النفوذ الأوروبي في المنطقة، ولهذا سارعوا إلى إقامة العلاقات معها والاتصال بها، وأنهم بهذا وبالحديث المباشر معها سيعملون على تخفيف وطأة استغلال أمريكا لإيران ضد نفوذهم أو الحد منه بإغرائها بعلاقاتهم معها وإقامة المشاريع والاستثمارات فيها. في الوقت الذي يعاني الإيرانيون فيه من ضائقة اقتصادية ومالية، فهم في أمس الحاجة إلى من يساعدهم في ذلك. وكان كل همهم رفع العقوبات حيث "تركت آثارا على المجتمع الإيراني" كما قال الرئيس الإيراني وكما ذكر أنها "أرجعتنا إلى العصر الحجري" وهو يتصدى للمعارضين في بلاده.
والنقطة الثالثة أنه بإمكانهم أن يعودوا لفرض العقوبات فورا عندما يرون أي إخلال من قبل إيران بالاتفاقية، وأنهم سيلوحون بفرض العقوبات كلما أرادوا الضغط على إيران لتحقيق مكاسب ومغانم، وسوف يطلبون المزيد منها. وهم بحاجة إلى تنشيط اقتصادهم الذي يعاني من الركود وتداعيات الأزمة المالية، وقد قبلت إيران بشروط الأوروبيين وكانت في إطار شروط الأمريكان، وهي التي أعلنها وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس قائلا: "هناك ثلاثة شروط لا غنى عنها لتحقيق ذلك (الاتفاق) هي التقييد الدائم لقدرة إيران على الأبحاث والتطوير، والتفتيش الصارم على المواقع بما فيها العسكرية إذا اقتضت الضرورة، وإعادة فرض العقوبات تلقائيا إذا انتهكت إيران التزاماتها". أي أن الأوروبيين وهم يسارعون بزيارة إيران سوف يعملون على الضغط عليها وتهديدها بعودة العقوبات حتى تفتح لهم الأبواب، ولن يتوقفوا عن ذلك، فهم على استعداد ليلفقوا الأقاويل ويختلقوا الأكاذيب مدّعين أن إيران تفعل كذا وكذا وهي تتلكأ بتنفيذ الاتفاق أو تعمل على عرقلة حركة المفتشين وإلى غير ذلك.
النقطة الرابعة إنهم يريدون أن يلعبوا داخل إيران لاستعادة النفوذ الأوروبي المفقود والتشويش على النفوذ الأمريكي ما استطاعوا إليه سبيلا أو الوقوف بجانبه كطرف مواز له ويثيروا لها قضايا عديدة في هذا السبيل. وقد رأيناهم يتحركون بسرعة في هذا الاتجاه، مثلما فعل نائب المستشارة الألمانية ووزير الاقتصاد والطاقة الألماني سيغمار غابرئيل يوم 20/7/2015 عندما قام بزيارة إيران عقب التوقيع على الاتفاق رأيناه يقول: "إن التوقيع على الملف النووي وتصويت الأمم المتحدة لصالح رفع العقوبات بصفة تدريجية عن إيران مهدا الطريق نحو تعزيز العلاقات، إلا أن أمن إسرائيل أضحى يشكل العقبة الوحيدة"، وكذلك تعرض إلى "الأمن في منطقة الشرق الأوسط وأمور تشكل خلافا مع إيران تتعلق بحقوق الإنسان وأوضاع النساء في المجتمع وحماية حقوق الأقليات وكذلك قوانين المنافسة ومكافحة الفساد". فهذه مقدمة لإثارة المشاكل لإيران وابتزازها والضغط عليها لتحقيق مآربهم وللتأثير في داخل إيران وإيجاد أجواء مناسبة للعمل هناك وكسب العملاء والمناصرين لهم.
والنقطة الخامسة يريد الأوروبيون أن يظهروا في الساحة الدولية كمؤثرين كبار، ليظهروا كأنهم هم الذين حققوا الاتفاق أو كأن لهم دوراً رئيساً في تحقيقه، ولذلك يقومون بأعمال ويدلون بتصريحات ليثبتوا أن النجاح كان لهم فيه فضل، فهم يتحركون بسرعة نحو إيران ليقيموا معها علاقات قبل أن تتحرك أمريكا التي يعرقل حركتها في هذا الاتجاه معارضة الجمهوريين في الكونغرس وانتظار التصويت عليه خلال 60 يوما. فهم يغتنمون الفرصة بالنسبة لهذا الوضع في أمريكا. ولو توقفوا عن ذلك لظهر أنهم ينتظرون التحرك الأمريكي، وأنهم لم يكونوا مؤثرين في تحقيق الاتفاق، وإنما فرض عليهم فرضا من قبل أمريكا، واضطروا للتوقيع عليه. وهذه فرصة لهم أيضا ليبقوا لاعبين دوليين بمراقبة إيران، ولذلك يريدون أن يقيموا معها علاقات ويقوموا بالتهديد بفرض العقوبات كالأسلوب الأمريكي، فلا يعزلوا أنفسهم ويتركوا أمريكا تلعب هذا الدور.
والنقطة السادسة هي إدراك الأوروبيين بأنهم لن يتمكنوا من فعل أكثر مما فعلوه تجاه إيران، ولن يستطيعوا أن يقفوا في وجه أمريكا، وقد حاولوا أن يستخدموا كيان يهود في السنوات الماضية لضرب إيران فلم يتمكنوا من ذلك. وهم يدركون أن هذا الاتفاق كان لصالح كيان يهود الذي يحرصون على حمايته، فلم تعد هناك إمكانية لدى إيران بتهديد كيان يهود. ولهذا رأوا أنه من السذاجة والغباء أن يبقوا بعيدين عن إيران بعد كل ذلك. وقد أدركوا أن كيان يهود لن ينفعهم بشيء بعد تلك المحاولات، وعلموا أن معارضة كيان يهود للاتفاق ما هي إلا لمغازلة الجمهوريين الذين يأملون بالوصول إلى البيت الأبيض في الانتخابات القادمة، وكذلك لابتزاز الإدارة الأمريكية للحصول على مزيد من المساعدات، ولمنعها من الضغط عليهم في قضايا سياسية مثل مشروع إقامة الدولتين.. ولهذا السبب وقفوا في وجه معارضة كيان يهود بشكل علني، فحصل جدال بين وزير خارجية بريطانيا ونتنياهو في المؤتمر الصحفي الذي عقداه بصورة علنية، وكذلك بين فرنسا وكيان يهود..
والنقطة السابعة وهي في غاية الأهمية والخطورة؛ وهي إعلان إيران أنها ستقف مع الغرب في خندق واحد في محاربة ما يسمى بالإرهاب والتطرف أي محاربة الطرف الآخر من المسلمين الذين يحاربون الغرب ويريدون أن يقلعوه من جذوره من بلادهم وأن يتخلصوا من براثن استعماره ويعملوا على إقامة الخلافة الراشدة. فقد كتب الرئيس الإيراني حسن روحاني على موقعه في تويتر يوم 16/7/2015 معلقا على اتصال رئيس الوزراء البريطاني كاميرون به قائلا: "إن كاميرون أبدى اهتمامه بإعادة فتح السفارات وتوسيع العلاقات بين البلدين ومكافحة الإرهاب في المنطقة". ووصف وزير خارجية بريطانيا هاموند الاتفاق بأنه "تاريخي" وقال: "إننا سنواصل العمل بشكل وثيق مع شركائنا في الائتلاف الدولي لتشجيع إيران على لعب دور شفاف وبناء إقليميا وخصوصا في مجال مكافحة التطرف" ووصف الرئيس الفرنسي أولاند الاتفاق بأنه "في غاية الأهمية". وقد ذكر جواد ظريف يوم 3/7/2015: "إننا مستعدون لفتح آفاق جديدة لمواجهة التحديات الكبيرة والمشتركة. إن التهديد المشترك اليوم هو تصاعد الخطر للتطرف العنيف والهمجية". أي أن إيران استعدت للسير في ركاب الغرب بصورة علنية..
ولهذا تحركت الدول الأوروبية الثلاث سريعا نحو إيران، بل إنهم منذ فترة وهم يخططون لهذه اللحظة التي وصفوها بالتاريخية وفي غاية الأهمية، عندما أدركوا أن الاتفاق سيتم وقد ظهر ذلك جليا في ألمانيا، حيث بدأت الشركات الألمانية تستعد للتحرك فورا نحو إيران، وهي منذ فترة ترسم البرامج المستقبلية في إيران والمشاريع التي ستنفذها هناك، فظهر ذلك عبر وسائل الإعلام الألمانية، وكأن الألمان منذ فترة وهم واثقون أن الاتفاق سيوقع ويشعرون أن إيران سوف تتنازل ويدركون أنها رهن إشارة أمريكا. ولهذا فلم يبق للأوروبيين إلا أن يتحركوا على المستوى الدولي ليظهروا أنهم دول لها شأن دولي يحسب حسابها، وليتحركوا نحو إيران حتى يحصلوا على المغانم بكسب الاستثمارات والمشاريع فيها لتحريك عجلة اقتصادهم، ومن خلالها يمكنهم أن يعملوا داخل إيران على المدى البعيد لاستعادة النفوذ الأوروبي أو بعضه هناك بجانب النفوذ الأمريكي، وأن يستغلوا الفروقات فيثيروا النعرات الجاهلية من تعصبات مذهبية وقومية في داخل إيران وفي المنطقة، وهم كالأمريكان يعتبرون ذلك وسيلة لضرب الإسلام والمسلمين ومنع وحدتهم ونهضتهم وعودتهم أمة متحدة في ظل دولة واحدة عظمى متجسدة بالخلافة، وهم منذ سنين قد وضعوا ذلك كسناريو محتمل يعملون فعلا على احباطه. ولكن ثقتنا بالله أعظم وهو القائل ﴿وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾.
رأيك في الموضوع