إنّ المتتبع للأزمة المالية التي تمر بها وكالة الغوث التي أثيرت مؤخرا في فلسطين، لا سيما في قطاع غزة، وفي بلدان أخرى، فيما يتعلق بتقليص أعمالها ونشاطاتها، ومن ضمنها القرارات الأخيرة التي تتحدث عن احتمال تأجيل بدء العام الدراسي وإيقاف عمل موظفي التعليم من خلال منحهم إجازة بدون راتب خلال تلك الفترة في مناطق عدة أبرزها قطاع غزة، وذلك بحجة عجز وكالة الغوث التراكمي عن سد التزاماتها المالية التي بلغت ما يقارب 100 مليون دولار، إنّ المتتبع لهذه الأزمة يلحظ أنّها أزمة متجددة مفتعلة وسياسية وليست وليدة اللحظة أو مجرد أزمة مالية.
فهي أزمة تمتد لسنوات عديدة مضت، والحديث عن النقص في التمويل وعدم القدرة عن الوفاء بالالتزامات ليس بالأمر الجديد، بل هي أثيرت مرات عديدة خلال السنوات القليلة الماضية، ومسألة تراجع الخدمات التي تقدمها وكالة الغوث للاجئين مسألة ملموسة من اللاجئين من أزمنة مديدة، وما أضيف إليها مؤخرا هو الناحية الإعلامية التي ضخمت الأزمة وأبرزتها للسطح، وهو ما يستدعي الوقوف على الأسباب التي يسعى الغرب والممولون إلى تحقيقها من خلال تضخيمها وإبرازها للعيان.
فالضائقة المالية التي تمر بها وكالة الغوث هي أبعد ما تكون عن ضائقة مالية لأسباب اقتصادية صرفة، لأنّ الحديث هو عن دين تراكمي يبلغ 101 مليون دولار، وهو مبلغ تافه بالنسبة إلى أمريكا صاحبة النفوذ في الأمم المتحدة وهيئاتها، وهو أيضا تافه جدا بالنسبة إلى دول الخليج التي تنفق المليارات هباء منثورا في كل عام لخدمة أمريكا وبريطانيا ومشاريعهما الاستعمارية في المنطقة، وهو مبلغ لا يرقى إلى مستوى النقاش لدى هذه الدول إن أرادت تأمينه، فالقضية هي أبعد ما تكون عن قضية عجز مالي.
فالقضية إذن هي قضية سياسية مفتعلة وليست قضية مالية، وبالنظر إلى الأطراف المؤثرة وصاحبة القرار في قضية اللاجئين، نلمس أنّ أمريكا هي صاحبة القرار، وهي التي تدير دفة الأمم المتحدة وهيئاتها، لما لها من نفوذ عليها وعلى الدول العربية المشاركة فيها، ولمساهمتها الكبيرة في المالية العامة مقارنة بالدول الأخرى، وبحسب الأمم المتحدة، فإن قرابة 1.3 مليون لاجئ، يعيشون في قطاع غزة من بين عدد سكان القطاع البالغ 1.8، أي أكثر من ثلثي قطاع غزة، و914 ألف في الضفة الغربية، أي أنّ قطاع غزة هو المتأثر الأكبر بأي أزمة تحل باللاجئين في الداخل. وأمريكا معنية بدرجة كبيرة في التضييق على قطاع غزة وحركة حماس المسيطرة عليه، لتقودها إلى الارتماء في أحضانها وأحضان عملائها في المنطقة، خاصة مصر، وهي تستخدم وكالة الغوث ومعبر رفح ومصر وإيران لإحكام السيطرة على قطاع غزة وحركة حماس، ولذلك عمدت بريطانيا إلى فتح خط مواز من خلال قطر في عملية إعادة الإعمار والمساعدات والبترول لتخفف الضغط عن القطاع وحركة حماس لتحول بين أمريكا وبين سعيها للسيطرة على حركة حماس وقطاع غزة بشكل كامل، كما هو حال السلطة في الضفة الغربية التي تفردت أمريكا بالسيطرة عليها. فمن جانب تريد أمريكا مزيدا من الضغط على القطاع وحركة حماس على اعتبار أنها أكبر المتضررين، ومن جانب آخر تريد أن تحرز خطوة باتجاه إيجاد حل وتصفية لموضوع اللاجئين وحق العودة.
فالضغط المتواصل والتضييق على اللاجئين من شأنه أن يدفع باتجاه المطالبة بإنهاء أزمتهم بأي ثمن، حتى ولو كان بخسا، وهذه سياسة عامة تتبعها أمريكا وعملاؤها في سوريا ولبنان والعراق وحتى عملاء أوروبا وبريطانيا في المنطقة في الأردن ولبنان، فهم متفقون على الرؤية ذاتها في تصفية قضية اللاجئين من خلال تصفية قضية فلسطين، ولذلك نرى كل هذه الدول لم تحترم يوما حقوقا للاجئين ولم تسمح لهم بحياة كريمة حتى تحول بينهم وبين التوطين الكريم الذي يمنعهم من التفكير بالخلاص والتنازل عن حقوقهم في فلسطين.
فالأونروا ومنذ أن تأسست بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949، تم تفويضها بتقديم المساعدة لحوالي خمسة ملايين لاجئ فلسطيني، مسجلين لديها في مناطق عملياتها الخمس في الأردن، وسوريا، ولبنان، والضفة الغربية، وقطاع غزة، كانت الغاية لدى الغرب من وراء ذلك مساعدة دولة يهود وتسهيل عملية احتلالها للأرض المباركة فلسطين من خلال تخفيف حجم الاحتقان والضغط على حكام المنطقة من أجل التحرير، وتخفيف العبء المالي من على حكام المنطقة، فهي وكالة قد أنشئت ضمن سلسلة من التآمر على فلسطين لتمكين يهود منها، ولم تكن إحدى غاياتها توفير الحياة الكريمة للاجئين أو تسهيل حياتهم، بل امتصاص غضبهم وإسكاتهم في حياة ذل ومهانة إلى حين تصفية قضية فلسطين.
والآن وبعد أن قطع الغرب والحكام أشواطا عديدة في مخطط التركيع للشعوب والتطبيع، وتسخير الحكام والسلطة في تقديم التنازلات وتمكين يهود من فلسطين، فإنّ الأجواء مهيأة أكثر من وجهة نظر أمريكا والغرب لتحقيق إنجازات أكبر على صعيد تصفية قضية اللاجئين ودفعهم للتنازل والقبول بأي حل من شأنه أن يريحهم قليلا من ضنك العيش وذلة الحياة.
هذا حلمهم وهذه حساباتهم، ولكنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، وهم في كل مرة يصطدمون بحقيقة الأمة الإسلامية وأبنائها الأبطال، الذين يشكلون صخرة كأداء أمام مشاريع الغرب وطموحاته، ويبرزون كأسطورة تعجز مضامين الغرب الفكرية عن تفسيرها أو تحليلها، وهم من أصلاب أولئك الأحرار الذين قال فيهم العرب، "تموت الحرة ولا تأكل بثدييها"، ولكن الغرب غرّه نذالة الحكام والسلطة وخِسّتُهم فقاسوا عليهم بقية أهل فلسطين والأمة، فخابوا وخسروا إن شاء الله.
فهي دعوة مفتوحة إلى أهل فلسطين بخاصة وإلى المسلمين بعامة أن يحذروا مما يُكاد لهم، ومما يُدبر لقضيتهم، وأن يتذكروا بأن النصر صبر ساعة، وأنّ الفرج قريب بإذن الله دونما الحاجة إلى تقديم تنازلات أو التفريط بالمقدسات، فنحن أمة لا نقبل الدنية.
رأيك في الموضوع