"في استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تلعب تونس دوراً صغيراً ولكنه حيوي - يطلق عليه "زنبق الماء الأبيض" - وهو نوع من الملاذ في منطقة مضطربة، تماما مثل الأردن، مركز اتصالات وربما نقطة انطلاق لعمليات القوات الخاصة الأمريكية في شمال أفريقيا والصحراء".
هذا ما جاء على لسان المحاضر والباحث الأمريكي في الشؤون الدولية، روب برنس، (المختص في الشأن التونسي والجزائري والذي طالما نشرت أبحاثه الورقية في Foreign Policy In Focus، التابع للمعهد الأمريكي للدراسات)، وذلك أثناء محاولة تفسيره سابقا للنقطة العاشرة في اقتراح مجلس الشيوخ الأمريكي حول سبل دعم كيان يهود، بعد مقترح لجعل تونس جزءاً من فريق المفاوضات لتطبيع العلاقات بين السعودية وكيان يهود مقابل الدعم السياسي والاقتصادي.
لم يكن سرا إطلاق حوار متوسطي تحت مظلة حلف شمال الأطلسي سنة 1994، ليضم لاحقا كلا من البلدان التالية: تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا ومصر والأردن وكيان يهود. ولكن ربما يكون الوقت قد حان عند أمريكا صاحبة اليد الطولى في حلف الناتو لبداية قطف ثمار هذا الحوار المعلن على مدار العقود الثلاثة.
ولئن تعددت زيارات قيادات هذا الحلف لمنطقة جنوب المتوسط، تحت غطاء الحوار المتوسطي، فإنه يمكن اعتبار الزيارة الأخيرة التي قادها رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي الأميرال روب بوير هي الأبرز والأكثر جدية إلى حد الآن، حيث خصص خمسة أيام (بداية من يوم 15 نيسان/أبريل 2024) من أجل التباحث والتشاور مع قادة تونس والجزائر حول أشكال التعاون العسكري.
فقد التقى هذا المسؤول العسكري أثناء زيارته إلى تونس بوزير الدفاع عماد مميش ووزير الخارجية نبيل عمار، وذلك لبحث سبل تعزيز آليات التعاون في مجالات التكوين والتدريب وبناء الخبرات لمواجهة التهديدات الإرهابية، في حين بحث مع وزير الخارجية الجزائري لوناس مقرمان، التحديات التي تواجه حوض البحر الأبيض المتوسط وكذا الأوضاع في منطقة الساحل الأفريقي والتطورات الأخيرة التي تشهدها قضية فلسطين.
أما اللقاء الأهم، فكان في مقر قيادة أركان الجيش الجزائري، حيث أكد رئيس الأركان الفريق أول السعيد شنقريحة بأن التعاون بين الجزائر وهذه المنظمة قد شهد تطورا نوعيا سواء على مستوى الحوار والتشاور أو على المستوى العملي. فيما أشاد الأميرال بوير بدور الجزائر المحوري في الحفاظ على استتباب الأمن والاستقرار في المنطقة الإقليمية.
ولفهم أبعاد هذه الزيارة، فإنه من الضروري التذكير بما يلي:
أولا: لأول مرّة في تاريخ حلف شمال الأطلسي، يتم دمج منطقة شمال أفريقيا والساحل في صلب العقيدة الاستراتيجية للحلف كما صدر عن قمة مدريد التي اختتمت أعمالها في 30 حزيران/يونيو 2022. ويندرج هذا التحول في السياق الدولي الجديد المتسم بالحرب الروسية-الأوكرانية وامتداداتها الإقليمية، حيث شكلت أفريقيا ساحة مهمة من ساحات الصراع الدولي، وزادها أهمية رفض العديد من البلدان الأفريقية الانحياز إلى الكتلة الغربية والبحث عن شراكة مع روسيا والصين، في وقت تبحث فيه أوروبا عن بدائل طاقية للإمدادات الروسية وخاصة الغاز الطبيعي الذي تزخر به دول أفريقية وفي مقدمتها الجزائر.
في هذا الإطار بلور حلف الناتو عقيدة استراتيجية جديدة في قمته بمدريد، تضمن النص على روسيا بصفتها التهديد الرئيس لأمن المجال الأورو-أطلسي، وعلى الصين باعتبارها تحديا مستقبليا لأمن التحالف ومصالحه، من أجل مجابهة تزايد الاختراق الروسي الصيني للمنطقة، واستعمال ذلك كفزاعة لأوروبا بعد عودة الحرب إلى العمق الأوروبي. وهي مقاربة تقف وراءها أمريكا الراغبة في تحجيم روسيا وقطع نفوذها الإقليمي وتركيع الصين، مع إشغال كل منهما بنفسه.
ثانيا: إن الزيارات المتكررة لمسؤولي حلف شمال الأطلسي إلى بلدان شمال أفريقيا وإسناد كل من تونس والمغرب صفة "حليف مميز" من خارج الناتو، تهدف بالأساس إلى ربط السياسات الدفاعية والتوجهات العسكرية لهذه الدول بمشروع الهيمنة الأمريكية وبرؤيتها الاستعمارية الماكرة، حيث تمكن هذه الصفة من النفاذ إلى الفائض العسكري من الأسلحة والحصول على تمويلات أمريكية لشراء عتاد عسكري، بالإضافة إلى تعزيز التعاون في الأبحاث والبيانات بين وزارتي الدفاع لكلا البلدين، ومن نافلة القول أن تكون الجهة المانحة هي المتحكمة في نوعية المساعدات وحجمها، فضلا عن استعمالها كأداة لاستمالة قادة الجيوش في هذه المنطقة تمهيدا لاقتحامها وسحب البساط من تحت أقدام المستعمر الأوروبي القديم. في هذا الإطار، اعتبرت تونس مركز اتصالات أو نقطة انطلاق للعمليات في المنطقة.
ثالثا: إن الزيارة الأخيرة تأتي في وقت تسعى فيه أمريكا إلى جمع أكبر عدد ممكن من أوراق الضغط على الجزائر لمساومتها في أمنها القومي. فهي اليوم تشرف على معسكرات للتدريب في ليبيا (تابعة لعميلها حفتر)، وتتحرش بالجنوب التونسي، وتنشر الفوضى الخلاقة في تشاد والسودان، يُضاف ذلك إلى جهودها السابقة في محاوطة أطراف الجزائر، من خلال اتفاقيات عسكرية مع تونس والمغرب، وانقلابات عسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، أي في الفناء الخلفي للجزائر، هذا فضلا عما أسند لتركيا وروسيا من أدوار مؤقتة لا تخدم إلا المصالح الأمريكية في أفريقيا. وهكذا تجد الجزائر نفسها تدريجيا مجبرة على مسايرة المقاربة الأطلسية الجديدة، وبالتالي الرؤية الأمريكية للمنطقة، في وقت حاولت فيه الحفاظ على علاقات اقتصادية وعسكرية جيدة بكل من روسيا والصين، على أمل الانضمام إلى مجموعة "البريكس"...
من كل ما تقدم، يتبين أن القضية أعمق من اختزالها في لقاءات عسكرية أو في مقاربة أطلسية لمنطقة شمال أفريقيا والساحل، إنما يتعلق الأمر بحلقة في سلسلة محاولات اقتحام المنطقة، كمقدمة لحسم الصراع الدولي في القارة السمراء. بعبارة أخرى، فإن الأمر لا يتعلق بقضية محلية أو إقليمية، وإن بدا الأمر كذلك، إنما بقضية دولية، هي قضية أفريقيا، حيث لا تزال أمريكا مُصرّة على إخراج الدول الأوروبية، لا سيما بريطانيا، من آخر مستعمراتها في أفريقيا.
ولذلك تحاول أمريكا بعد نجاحها في التسلل إلى جيوش عدد من الدول الأفريقية من جهة والسيطرة على بعض حركات التمرد من جهة أخرى، إلى إخضاع دول شمال أفريقيا وإرغامها على السير ضمن أجندتها في (محاربة الإرهاب)، رغم تأكد إشرافها على صناعة الإرهاب وتصديره إلى دول المنطقة على غرار ليبيا والسودان وبلدان الساحل الأفريقي.
ختاما، فإن فتح الأبواب على مصراعيها أمام كافر حربي يشارك كيان يهود جرائم إبادة أهلنا في غزة ويحمل لواء منظمة استعمارية عريقة ولغت في دماء المسلمين مثل الناتو، هو جريمة موصوفة لا يُسكت عنها، وهي خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وما لم تُقبل شعوب هذه المنطقة على مشروع الأمة الحضاري المتمثل في الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فإنه يخشى عليها فوق عار التبعية وذل الخيانة والسكوت عنها، من صراعات دموية تضاف إلى سجل النزاعات المسلحة الدامية التي ابتليت بها قارة صارت تحتوي على أكثر من ربع الألغام الأرضية المزروعة في العالم أجمع! قال تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾. وقال ﷺ: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ».
رأيك في الموضوع