لقد ميز الله عز وجل الأمة الإسلامية الكريمة على كل الشعوب والأمم بأنها خير أمة أخرجت للناس على وجه الأرض؛ قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾. ومن هذه الخيرية صفات كثيرة أبرزها: أنها أمةٌ واحدةٌ من دون الناس، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾. وقد أرسى رسول الله ﷺ هذا المعنى ورسخه في موادعة المدينة المنورة فقال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِي الأُمِّيِّ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ». فأمة الإسلام ملة واحدة تعبد ربا واحدا؛ لا تشرك به غيره، وقرآنها واحد؛ لا يتعدد أساس عقيدتها ودينها، ورسولها واحد؛ يبلغها شريعة ربها تعالى، فلا يوجد لها رجال دين أو مشرعون سوى ذلك.
أما عندما تحدث عن غيرها كاليهود والنصارى فقد وصفهم بالفرقة والتمزق والتشرذم فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، وفي قراءة حمزة عن الإمام علي رضي الله عنه: "فارقوا دينهم" بمعنى أنهم كفروا وخرجوا من الدين، والسبب أنهم خالفوا أصول الاعتقاد فأشركوا بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾.
هكذا كانت هذه الأمة منذ أسسها رسول الله ﷺ «أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ». ومضت عبر التاريخ في عهد الخلفاء الراشدين يجمعها الإسلام من كافة الأعراق والاجناس، يفتحون البلاد والأمصار، وينشرون هذه الهداية الربانية. وعندما كان يعتريها شيء من الفرقة والتمزق تنتكس وتضعف فيغزوها الكفار في عقر ديارها، كما حصل في عهد الصليبيين والمغول، وكما هو حاصل اليوم، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
لقد أصبحت هذه الأمة الإسلامية الكريمة في ظل الدين الواحد والاعتصام به والالتفاف حوله خير أمة أخرجت للناس على وجه الأرض؛ يزحف جيشها في كل الأرض، ويفتح الهند والسند والصين ووسط آسيا في القوقاز والقفقاس، ويغزو عقر أوروبا وبلاد الأندلس، وروسيا حتى سيبيريا... يقف قائدها على حافة الأطلسي يخاطب البحر يقول: "أيها البحر لو أعلم أناسا خلفك لخضتك بسنابك خيلي لأبلغ دعوة الله". ويخاطب خليفتها حاكم الروم فيقول له: "الجواب تراه قبل أن تقرأه"، ويجيب قوادها وخلفاؤها استغاثات المسلمات، فيقول المعتصم بالله العباسي: "لبيك أيتها المرأة" وهي على حدود الروم!!
ولم يقف الأمر عند القوة العسكرية بل كانت أمة الإسلام الأولى في العلم والعلوم، والمخترعات والصناعات، والطب... وهذا بشهادة المستشرقين، كالمستشرقة الألمانية زغريد هونكة في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) حيث قالت: "إن الغرب بقي في تأخره ثقافيا واقتصاديا طوال الفترة التي عزل نفسه عن الإسلام ولم يواجهه، ولم يبدأ ازدهار الغرب ونهضته إلا حين بدأ احتكاكه بالعرب سياسيا وعلميا وتجاريا".
لقد عرف الكفار المجرمون سبب قوة هذه الأمة ووحدتها، فصاروا يعملون على ضرب أسباب هذه الوحدة؛ وأولها أحكام دينها، ومنها الدولة الواحدة، تحت راية واحدة، في ظل أحكام الإسلام العادلة.
لقد عملوا سياسيا وفكريا وعسكريا على إنهاء وحدة الأمة الإسلامية، عن طريق تفكيك دولتها؛ سبب عزتها، وبعد جهود طويلة استهدفت دينها، عن طريق العملاء الفكريين والمبشرين استطاعوا هدم بيضة الإسلام وحاضنته الدولة الإسلامية سنة 1924م فتمزقت بلاد المسلمين، وتفرقت الأمة شعوبا وأعراقا، تحدها الحدود والسدود، وأصبحت أكثر من خمسين دولة بدل الدولة الواحدة، وتنازعت وتفرقت ففشلت وضعفت وذهب ريحها، وتأخرت في كل شيء؛ حتى أصبحت أذل الشعوب، وأفقر الشعوب وأكثرها تأخرا!!
إن ما تعاني منه الأمة اليوم، خاصة الحرب المستعرة اليوم على الأرض المباركة في غزة، وباقي المدن والقرى وعلى المسجد الأقصى المبارك، وما يفعله أذل خلق الله وأبغضهم إليه، بالمسلمين نساء ورجالا وشيوخا وولدانا، من قتل وتنكيل واعتداء على الأعراض، وهدم للبيوت، وتشريد وتشتيت وتجويع وغير ذلك مما يفعلون... إن سبب كل ذلك هو فرقة الأمة، وغياب دولتها سبب وحدتها وعزتها، ووجود هؤلاء الأصنام من الحكام، عملاء الغرب يتربعون فوق صدور المسلمين، يخونون الله ورسوله، ويطبّعون مع اليهود، بل ويساعدونهم عسكريا واقتصاديا ويفتحون بلادنا برا وبحرا وجوا لمساعدتهم في الحرب على غزة هاشم، وبدل أن يساندوا إخوانهم صاروا يعملون بأمر أمريكا دور الوسيط لإذلال المسلمين ولأن يكون لليهود عليهم يد.
إنه لا يرفع الظلم عن أمة الإسلام، سواء في الأرض المباركة (فلسطين)، أو في غيرها، ولا يحرر الأقصى وما حوله إلا دولة الإسلام، ووحدة هذه الأمة، تماما كما تحررت من شر الصليبيين عندما اتحدت كما كانت، بعد أن غزاها الصليبيون بسبب الفرقة والتنازع، وكما فعلت كذلك في عهد المغول. فلا يرتفع الظلم عن أهل غزة، ولا كشمير، ولا الأويغور ولا بورما... ولا غيرهم إلا عندما تعود هذه الأمة كما أراد لها ربها سبحانه؛ أمة واحدة، في دولة واحدة، يحكمها حاكم واحد، بدل هذه الدول الذليلة العميلة.
وقبل أن نختم نقول: إن الصيام مدعاة لتوحيد هذه الأمة الكريمة؛ فهو ينبثق من عقيدة الإيمان التي تجمع هذه الأمة، ويوحد مشاعرها جميعا من جاكرتا حتى طنجة ومن غانا إلى فرغانة، فهي تعبد ربا واحدا تصوم له، وهذا يذكرها بوحدتها؛ فالصيام جنة، والصيام وحدة، والصيام إيمان وتقوى، والصيام دافع للأخوة الإيمانية، وشعور بكل المسلمين في الأرض. تستشعر وهي في صيامها وقيامها ماذا يجري لإخوانها، تستشعر قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ وتستشعر قوله ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه مسلم. تتذكر قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً﴾. نسأله تعالى ونحن في هذا الشهر الكريم شهر الإيمان والنصر والفتح أن يكرم أمة الإسلام بالوحدة في ظل دولة واحدة تحت راية واحدة تعيد للأمة عزتها ومكانتها وكرامتها، وترفع الظلم عن أبنائها وتحرر مقدساتها.
رأيك في الموضوع