تحدثنا في الحلقة السابقة عن مسئولية أمريكا المباشرة عن الجرائم والفظائع التي حصلت في هذه الحرب القذرة الهابطة، وفي هذه الحلقة نتحدث عن أثر هذه الحرب على أمريكا داخليا وخارجيا...
ونصل النقطة المهمة في هذا الموضوع وهي أثر هذه الحرب داخليا في أمريكا، وفي الدول التابعة لها خاصة في العالم الإسلامي، وعالميا في باقي شعوب ودول العالم. أما تأثيرها داخل أمريكا، فقد شاهدنا المظاهرات تجوب معظم المدن الكبرى داخل أمريكا؛ مستنكرة تصرّف الساسة الأمريكان أولاً حيال هذه الحرب القذرة، ومستنكرة كذلك ما يقوم به كيان يهود من جرائم تجاه هذه الحرب، وحمَلوا صور الأطفال والنساء والأشلاء، وصور الهدم والردم والخراب. ومنهم من حمل صورة بايدن ويداه تقطران دما من شعب غزة! وهذا الأمر قد جعل شعبية بايدن تتدنى إلى أقل مستوى، وتؤثر على الانتخابات القادمة، وتؤثر عليه حتى عند الحزب الديمقراطي نفسه، وتدفعه للسعي لتغيير موقفه أولا، وإلى دعوة الأطراف من أجل تحقيق مكسب سياسي قبل فترة الانتخابات. فقد ذكرت شبكة NBC في 19/11/2023 "تدني شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن جراء الحرب الدائرة في منطقة الشرق الأوسط في غزة، وموقف واشنطن من هذه القضية، مبينة أنه يحظى الآن بدعم 40% فقط ممن شملهم الاستطلاع. وأشار قسم كبير من المستطلعة آراؤهم إلى عدم موافقتهم على سياسات بايدن بشأن قضية الصراع (الإسرائيلي) الفلسطيني، الذي اندلع في تشرين الأول/أكتوبر الماضي". وقد قام جوش بول، مدير مكتب شؤون الكونغرس والشؤون العامة في وزارة الخارجية الأمريكية، بتقديم استقالته بسبب تعامل الإدارة الأمريكية مع الصراع في غزة. وقال بأنه غير قادر على دعم المزيد من المساعدات العسكرية الأمريكية لـ(إسرائيل)، ووصف رد الإدارة بأنه "رد فعل متهور" يعتمد على "الإفلاس الفكري".
وأما تأثيرها على الدول العميلة لأمريكا، أو التي تسير في فلكها فإنه كبير جدا لدرجة أن أكثر من مسئول في أمريكا وفي دول المنطقة قد حذر من انفجار الوضع بسبب جرائم هذه الحرب؛ فقد حذر المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، تور وينسلاند في 18/10/2023، مخاطباً المجلس المؤلف من 15 عضواً عبر اتصال مرئي من الدوحة بالقول "أخشى أن نكون على شفا هاوية عميقة وخطيرة يمكن أن تغير مسار الصراع (الإسرائيلي) الفلسطيني، إن لم يكن الشرق الأوسط ككل"!
وأما تأثيرها عالميا على أمريكا؛ فقد وجهت دول عدة، منها الصين وروسيا، انتقادات لاذعة لأمريكا و(إسرائيل) بسبب دعمها لجرائم يهود في هذه الحرب، وبسبب انتهاكها للقانون الدولي.
فقد صرح وانغ يي وزير الخارجية الصيني في 15/10/2023، في اتصال هاتفي مع نظيره السعودي: "إن تصرفات (إسرائيل) تتجاوز حدود الدفاع عن النفس، داعياً إلى تجنب العقاب الجماعي لسكان غزة. وأضاف أن بلاده تعارض وتدين جميع الأعمال التي تضر بالمدنيين، لأنها تنتهك الضمير الإنساني والمبادئ الأساسية للقانون الدولي".
ونشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية تقريرا عن تأثير الحرب على الموقف الأمريكي في الشرق الأوسط 24/11/2023، جاء فيه: "إن الكثيرين في الشرق الأوسط يلقون باللوم على الولايات المتحدة في الدمار في غزة الذي قامت به (إسرائيل).. وبأن النظرة المهمينة لأمريكا عبر الشرق الأوسط هي أنه في حين أن (إسرائيل) هي التي تقوم بالقتال، فإن هذه حرب أمريكية".
أما روسيا فقد استغلت هذا الحدث سياسيا وخاصة في حربها في أوكرانيا، وتبريره بسبب سياسات أمريكا المتفردة في الشرق الأوسط. ففي 25/10/2023 ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باللائمة في اندلاع الحرب بين (إسرائيل) وحماس على السياسة الأمريكية، كما اتهمها بمحاولة "احتكار تنظيم" الصراع وتجنب الحلول ذات المنفعة المتبادلة.
وفي الختام نصل إلى الحقيقة المهمة وهي سقوط القناع عن هذه الدول التي تدعي تطبيق أفكار المبدأ الرأسمالي كحقوق الإنسان والديمقراطيات والحريات وغير ذلك. فقد ثبت في أكثر من موقع وأكثر من حدث عالمي أن الغرب يدعم الإرهاب الدولي وعلى رأسه أمريكا، وأن معظم الدول الغربية تقف موقف النفاق من أمريكا وسياساتها خاصة دول الاتحاد الأوروبي. فالصراع في غزة ابتداء هو دفاع عن الحقوق المسلوبة لاسترجاعها، وهو أكثر وضوحا من قتال الشعب الأوكراني ضد روسيا الذي تدعمه أمريكا، وتؤيده سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا. والقانون الدولي عبر هيئة الأمم المتحدة يقرُّ بشرعية دفاع أهل فلسطين عن حقوقهم وأرضهم المغتصبة. وأما أفعال يهود تجاه المناطق المحتلة سواء في غزة أو الضفة فإنها انتهاك صارخ لهذا القانون. وهناك قوانين لا تطبقها أمريكا إلا عند تحقق مصالحها السياسية، مثل جرائم الحرب والمحكمة الدولية بحق الأشخاص، وقتل المدنيين وقصف المستشفيات ودور العبادة وغير ذلك. وفي المحصلة فإن الفكر الرأسمالي برمته أصبح منهدما تماماً وتسخّره أمريكا في تحقيق مصالحها السياسية سواء في الديمقراطية أو الحرية أو حقوق الإنسان... فقد سقط القناع عن زيف هذا النظام المنحط الهابط وعن الدول التي تطبقه.
وهذا كله يقودنا إلى الحقيقة الساطعة، وهي حاجة البشرية اليوم إلى نظام العدل والاستقامة الذي يقود البشرية بالرحمة والمرحمة، ولا يفكر بالطين والتراب، وإنما بالقيم السامية العالية النبيلة، ولا يتعمد قتل الناس بسبب التطاحن على حطام الدنيا، كما هو حاصل في الحروب الدائرة على وجه الأرض؛ ومنها هذه الحرب الشريرة في غزة هاشم. فقد تعامل الإسلام على مرّ العصور مع شعوب كثيرة، وخاض حروبا كثيرة، ولكنه لم يفعل مثل هذه الأفعال المنحطة، لدرجة أن أعداءه شهدوا له بذلك، فقد قال: المستشرق توماس وارنولد في كتابه: (الدعوة إلى الإسلام) وهو يتحدث عن اضطهاد الفرس للنصارى موازنا بين سلوكهم وسلوك المسلمين: "ولكن مبادئ التسامح الإسلامي حرَّمت مثل هذه الأعمال التي كان يمارسها الفرس على رعاياهم من المسيحيين، والتي تنطوي على الظلم بل كان المسلمون على خلاف غيرهم؛ إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهدا في أن يعاملوا كلَّ رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس". وقال عن إيثار أهل القدس وفلسطين لحكم المسلمين، واغتباطهم به: "ومن المؤكد: أن المسيحيين من أهالي هذه البلاد - أي القدس - قد آثروا حكم المسلمين على حكم الصليبيين" (ص: 116).
إن البشرية اليوم بحاجة أولا إلى اسقاط هذه المبادئ الهابطة، وتحكيم منهج الله عز وجل الذي يحقق العدالة والاستقامة؛ وهذا يذكرنا بحجم الأمانة الملقاة على حملة الإسلام من أجل إعادة هذا المنهج الرباني السامي؛ فالأمانة ثقيلة على أمة الإسلام لتخليص نفسها أولا من هذا الذل والهوان، والتسلط من قبل أذل خلق الله يهود. فعندما كانت للمسلمين دولة وعزة وكرامة كان خليفة المسلمين يخاطب أكبر الدول في العالم يقول: "الجواب تراه قبل أن تقرأه".
إن أمة الإسلام مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى لإسقاط النظم العفنة في بلادها، والعاجزة عن فعل أي شيء، وعن الدفاع عن حرمات أهل غزة، وفي سائر بلاد المسلمين، وإسقاط هذه الدول الشريرة في أمريكا وأوروبا المتسببة بالظلم والتسلط وسلب الأموال وإثارة الحروب وكل ألوان الشر على الأرض...
فنسأله تعالى أن يكرم أمة الإسلام في القريب العاجل بتطبيق حكم الإسلام ليصدق فيها قول الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾.
رأيك في الموضوع