تتزايد الأخبار عن انقلاب الرأي العام عند الشعوب الغربية تجاه حرب كيان يهود على غزة، وعن انكشاف أكاذيب دول الغرب بشأن تلك الحرب، وافتضاح أساليبهم في تضليل الشعوب وتوجيه الرأي العام لما يخدم توجهات أصحاب القرار وصنَّاع السياسات في تلك الدول. وينتشر بشكل ملحوظ تزايد رفض الشعوب الغربية لمزاعم كيان يهود وجرائمه، واللافت في ذلك معارضتهم لحكوماتهم المؤيدة لوحشية كيان يهود، وتأييدهم المتنامي لغزة وفلسطين، وللإسلام الذي أخذوا يتطلعون لمعرفته. وقد أعلن كثير منهم عن صدمتهم بسبب غسيل الأدمغة الذي مورس عليهم أزمنة طويلةً. ولا تخفى أخبار هذه الوقائع على أحد، وهي تتوالى وتتزايد.
لقد فاجأ طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023 العالم بأسره، وشكل صدمةً كبيرة للعالم الغربي الذي انتفض وأعلنت كل دوله وعلى رأسها أمريكا وقوفها إلى جانب (إسرائيل) ودعمها بشكل غير محدود، وبأنها من حقها أن تفعل بغزة وأهلها ما تشاء، فتقتل وتدمر وتقترف أبشع الجرائم. وأجمعوا بكل صلافة واستكبار وبتحكّم مفضوحٍ لا يعتمدون فيه إلا على غطرسة القوة الغاشمة، على أن هذه الجرائم التاريخية وشديدة البشاعة دفاعٌ عن النفس. وتابعوا لأجل ذلك تضليلهم الإعلامي وترويجهم لأكاذيب يهود لتسويغ جرائمهم وطمس الحقائق كما هو شأنهم دائماً، ولكن هذه المرة بشكل أقبح وأوقح.
إلا أن الذي أرادوه لم يتحقق، فصمود أهل غزة ومجاهديها فاجأهم وأجهض مخططاتهم، ولم يتحقق لهم شيء سوى والتدمير والهدم وقتل الأطفال والمدنيين، قتلاً شنيعاً كشف للعالم كله فشلهم وحقدهم، كما كشف دجل شعاراتهم التي يخادعون بها وينهبون ويعتدون، كشعارات حقوق الإنسان والطفل ومنع قصف المدنيين والمستشفيات وما إلى ذلك مما شاهده العالم وما زالوا يشاهدونه.
وفي حين كان تأييد دول الغرب لوحشية كيان يهود الغاصب في غزة وفلسطين ما يستفز الفطرة الإنسانية بشكل كبير، فقد كانت مواقف أهل غزة في المقابل، رغم حجم القتل والهدم والآلام المفجعة، ما يبعث الناس جميعاً وبخاصة غير المسلمين على الاستغراب والاندهاش من هذا الصمود والتحدي. فاجتمع عند الناس أمران:
الأول: وحشية كيان يهود وحكومات الغرب الداعمة لهذه الوحشية، والمسوِّغة لها بالكذب والتضليل والبهتان.
والثاني: صمود أهل غزة وتمسكهم بحقوقهم وعدم استسلامهم مهما استحرَّ فيهم القتل، واستفردت بهم دول المجتمع الدولي برمتها، ومهما خذلهم أبناء الملة وإخوة الدين وسائر الناس.
وقد عجزت آلات الإعلام الغربية عن طمس هذه الحقائق، وفشلت في تسويغ هذه المجازر مهما تذرعت بعملية طوفان الأقصى، وشاهد الناس هذين الأمرين موثَّقين، رغماً عن كل خطط الغرب في الخداع والطمس والتضليل. فكان من تداعياتهما بدءُ انكشاف المفاهيم المضلِّلة والشائعة في الغرب بشأن فلسطين وكيان يهود، وبدءُ إدراك كثير من الحقائق بهذا الشأن؛ منها طبيعة كيان يهود الإجرامية وأنه كيان غاصب، وأن حكامهم في البلاد الغربية منافقون متحيزون ليهود وكيانهم بغير حق، ومنها أن صمود أهل غزة وتحدياتهم التي أثارت انتباههم وإعجابهم وأثارت ولعهم بها، إنما سببها الإسلام وأفكاره. وكان هذا سبباً إضافياً ليزدادوا قناعةً بأن مفاهيمهم عن الإسلام بأنه سببٌ للتخلف ويدعو إلى الإرهاب مغلوطة، وسببها غسيل الأدمغة الذي لطالما مارسه عليهم المتحكمون ببلادهم وبصناعة أفكارهم وتوجهاتهم، فأدى هذا إلى هذه المظاهر الانقلابية في مواقف الشعوب الغربية.
ومما يلفت نظر المراقب سرعة هذا التغير أو الانقلاب، فقد حصل خلال بضعة أسابيع، بعد دعاية غربية ويهودية على مدى عقود، وهو انقلاب ضد الإسلاموفوبيا، التي بذل الغرب لأجلها جهوداً ضخمة، وما زال ينشئ لها مؤسسات ومنظمات، وينفق فيها أموالاً بلا حساب. وبحسب هذه السرعة في الانقلاب والتسارع الجاري في تطور المواقف، يستطيع المراقب أن يتوقع تغيرات قادمة أكبر حجماً وأخطر نوعاً.
ولقد لمس قادة الغرب هذا التغير عند شعوبهم وتجاهلوه أول الأمر كما هي عادتهم، وعلى طريقة ديمقراطيتهم المزعومة: "فليقل الشعب ما يشاء ولنفعل ما نشاء"! إلا أن عدم منطقية هذه المواقف وتناقضها الواضح مع الوقائع، وتزايد رفض الناس لمواقف حكوماتهم، والتفات كثيرين منهم إلى الإسلام وبحثهم عن أفكاره ومفاهيمه، وانتشار أخبار دخول أفراد منهم في الإسلام وانفتاح هذا الباب، وُضع دهاقنة النظام العالمي الغربي أمام أحداث ووقائع يخشون مآلاتها، فكأنهم وجدوا أنفسهم بين خطريْن أو فشليْن:
الأول: أن يستمروا في دعم كيان يهود الإجرامي في جرائمه بهدف القضاء على أي تهديد له ثم لنفوذهم في المنطقة وللنظام العالمي. وهذا ما تبين أنه أمر يطول ومآلاته خطرة، ويتنامى رفضه في مجتمعاتهم بشكل خطر.
والثاني: أن توقِفَ أمريكا دعمها لهذه الأعمال الإجرامية وتضغط لوقفها. وهذا يضعها أمام خطر استقواء أهل المنطقة على هذا الكيان، وضعفه وفرار يهود منه، وفقدانه دوره الوظيفي في تكريس نفوذ أمريكا والغرب في المنطقة، ويهدد النظام العالمي برمته. ولذلك أخذوا يُراجعون ويتراجعون، ويتردَّدون بين رؤية خطرة وأخرى أخطر.
وهنا يتضح أمران ينبغي أخذهما بعين الاعتبار، وهما بالتأكيد واقعان:
أحدهما: الموقف الشعبي الغربي المتنامي ضد كيان يهود واحتلاله لغزة وفلسطين وضد ممارساته الوحشية على أهل فلسطين، ما يؤثر سلباً على دعم أمريكا والغرب لهذا الكيان بالمال والسلاح، وبالمواقف السياسية، وبالفيتو في مجلس الأمن وغير ذلك، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف متزايد لهذا الكيان داخلياً وخارجياً.
والأمر الآخر: فقدان هذا الكيان لدوره الوظيفي كما تقدم، حيث إنه يمثل أضخم وأرخص وأهم قاعدة عسكرية أمريكية في بلاد المسلمين، بل في أخطر منطقة في العالم جيوسياسياً، وأهمها على صعيد تحقيق المصالح ورسم الاستراتيجيات. وهو - فوق كل ذلك - يقوم بأعمال خارجة على القوانين الدولية ويعتدي في أي مكان بالوكالة عنها ومدعوماً منها. فإذا فقد هذا الدور، وفقد قدرته على أن يكون شرطي المنطقة، وعلى إرهاب أهلها ومنعهم من الخروج على النظام العالمي، فسيصبح وجوده غيرَ مُجدٍ، بل خطِراً على المصالح الغربية. ولا بد حينئذٍ من تغيير جذري في استراتيجية أمريكا للمنطقة.
ومما يغذي هذا التفكير والاتجاه، أن بديله هو زيادة دعم كيان يهود بارتكاب المجازر وخرق القوانين الدولية ليتمكن من القيام بدوره الوظيفي، وهو ما تقدم أنه قد صار مصدر إحراج وخطر.
ولا يقتصر تأكيد ما تقدم على مواقف شعوب الغرب، بل إن تقارير العديد من المنظمات الدولية صارت فاضحة في هذا الشأن، ومثل ذلك تصريحات لسياسيين في الدول الغربية، منها مراجعات ونصائح واعتراضات داخل البيت الأبيض. ومآل هذه المستجدات أن تضع فوق الطاولة تساؤلات عن أهمية وجود كيان يهود، وأبحاثاً تقارن بين جدوى بقائه ودعمه أو التخلي عنه وزواله ومآلات ذلك. ولقد انكشف شذوذ هذا الكيان لكل شعوب العالم، وصار فاشلاً وعِبئاً، وغير قادر على القيام بوظيفته، كما أن طبيعته المستفزة من حيث الحقد والتآمر، والغدر والبهتان، والاعتداء والقتل والكذب، تستدعي نبذه.
ولذلك، فإن تداعيات عملية طوفان الأقصى ما زالت تتوالى، ومن تداعياتها المتوقعة القضاء على هذا الكيان الغريب والشاذ، واستئصاله من جذوره. وقد كتب الله سبحانه وتعالى على اليهود الذلة والمسكنة أينما كانوا، إلا بمددٍ منه تعالى أو من الناس. وقد انقطع مدد الله تعالى عنهم بكفرهم وقتلهم الأنبياء واعتداءاتهم، ولم يبقَ لهم اليوم إلا مدد أمريكا والغرب ودعمهما، وهو يوشك أن ينقطع. قال تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾.
ولذلك فإن الذي يجري اليوم من مجازر فاقت وحشيتها كل خيال، رغم ما يسببه ذلك من ألمٍ وأسىً في نفوس المسلمين، هو من مقدمات القضاء على هذا الكيان، ومن مقدمات تحفز المسلمين للانتفاض وتحرير جيوشهم ليقوموا بعملية التغيير الكبير والتحرير الشامل. وكأنّ هذه المقدمات المؤلمة هي ذات الشوكة التي رغب المسلمون غيرها في بدر، ولكن الله سبحانه وتعالى قضاها لهم لأنه أراد لهم النصر والعزة رغم فروق القِوى. قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾.
بقلم: الدكتور محمود عبد الهادي
رأيك في الموضوع