الانقسام عند يهود ليس خيالاً ولا ترفاً فكرياً ولا ضرباً من الخيال؛ بل هي حقيقة قرآنية لا شك فيها، فهم قوم دون البشرية متفرقون، قلوبهم شتى، قال تعالى في حقهم: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾، يقول صاحب الظلال رحمه الله: "والقرآن يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين، ليهون فيها من شأن أعدائهم؛ ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم، فهو إيحاء قائم على حقيقة؛ وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت، ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله، وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد، فلم تقف لهم قوة في الحياة".
ما أجمل تدبر كتاب الله سبحانه: ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾، ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾.
ويتابع صاحب الظلال رحمه الله: "المظاهر قد تخدع؛ فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد، ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم؛ إنما هو مظهر خارجي خادع، وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع، فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور، وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد، قائم على اختلاف المصالح وتفرق الأهواء، وتصادم الاتجاهات".
وحرب غزة هي حدث من الأحداث الكثيرة التي بينت هذه النفسية العفنة حتى في ذاتها وهذه العقلية القذرة حتى على قومها لأنهم قوم لا يعقلون، هذه الآيات ناطقة بحقيقة يجب ألا تذهب عن أعيننا، ولا ننخدع بمظاهر التجمع المزعوم خلف الشاشات والابتسامات التي تخفي خلفها حقداً واختلافاً كبيراً، ويُعد الانقسام على الذات أمراً متجذراً، ويعود إلى مرحلة ما قبل تأسيس كيان يهود الذي رغم قيامه على فكرة الوعد الرباني في الأرض المقدسة، كاد ألّا يرى النور بسبب "الحريديم" ومن ورائهم منظمة "أغودات إسرائيل" اليهودية المتشددة التي حاولت الوقوف عائقاً أمام التصويت على قيام كيان يهود أمام الأمم المتحدة، ولقد ظهر هذا الانقسام الآن بشكل كبير في غزة، ليس من باب تنوع الآراء وأخذ الرأي بل من باب رأي يخفي خلفه حقداً.
لقد أظهرت غزة العزة هذا الاختلاف والانقسام الداخلي بشكل كبير، حيث ظهر هذا الانقسام في هذه الأمور:
١- ضد خطة إصلاح النظام القضائي المثيرة للجدل.
٢- العلاقات الخاصة والمميزة مع الولايات المتحدة المبنية من ضمن أمور أخرى على القيم المشتركة وليس فقط على المصالح المشتركة.
٣- الانقسامات المجتمعية وإشكالية الهوية وتعريف اليهودي.
٤- إشكالية أزمة الوجود والبقاء والتعامل مع المخاطر.
٥- إشكالية حل الدولتين؛ بين رفض قاطع له وبين فريق يرى المماطلة والادعاء بالقبول، وإلقاء الرفض على الطرف الآخر وعدم قدرته وجديته ووحدته.
٦- إشكالية النزوع نحو اليمين والتطرف والأحزاب اليمينية والتعامل مع الآخرين.
يصعب جداً حصر أشكال ومظاهر الانقسام، لكن أقوى هذه المظاهر هو كيفية التعامل مع ظاهرة الإسلام ونمو الوعي الإسلامي وكيفية التعامل معه، بدل الحركات القومية والوطنية خاصة في ظل فقدان اليهود للقيادات السياسية والعسكرية، ولا أقول المبدئية؛ لأنهم لا مبدأ لهم، وهذا العامل له أثر كبير في تنوع وتعدد الانقسام.
ويبقى سؤال مهم وضروري: هل الانقسام حقيقة أو خيال؟
لن أتحدث هنا بأمور أعلم مدى ثبوتها ولكني سأنقل كلامهم عن أنفسهم، فحديثهم هو اعتراف وكفى:
- في خضم احتفاء يهود بعيد الغفران، دعا الرئيس إسحاق هرتسوغ المجتمع (الإسرائيلي) إلى تعلم الدروس من الماضي، معتبراً أن "التهديد (الإسرائيلي) الداخلي هو الأكثر حدة وخطورة على الإطلاق".
- حذر رئيس حكومة كيان يهود الأسبق، إيهود باراك من أن الخطر الحقيقي الوحيد الذي يهدد مستقبل دولة الاحتلال هو الشرخ الداخلي والكراهية الذاتية بين مختلف شرائح المجتمع (الإسرائيلي). وبعد أن نفى باراك كون بعض الأخطار أخطاراً وجودية تهدد بقاء الكيان، انتقل للقول إن الخطر الحقيقي الذي يهدد وجود (إسرائيل)، وهو خطر "واحد ووحيد"، بحسب تعبيره، يمكن أن يتفاقم لدرجة التهديد الوجودي، بالنظر إلى "تجربتنا التاريخية" (يقصد الرواية (الإسرائيلية) اليهودية بأن خراب الهيكل الأول والثاني كانا بسبب النزاعات الداخلية بين اليهود أنفسهم والانشقاقات في صفوفهم) هو "الأزمة الداخلية، والشرخ الداخلي والكراهية المتزايدة بين اليهود أنفسهم".
رأيك في الموضوع