إن أساس نشأة القانون الدولي يعود إلى تكتل الدول الأوروبية النصرانية للوقوف أمام الدولة الإسلامية (العثمانية) في نهاية القرن السادس عشر الميلادي، والذي أدى فيما بعد إلى نشوء الأسرة الدولية النصرانية التي تطورت في منتصف القرن السابع عشر، وعقدت مؤتمر وستفاليا عام 1648م، ووضعت قواعد تنظم العلاقات بينها في مقابلة الدولة الإسلامية، ووضعت أسسا لما أسمته القانون الدولي، الذي لم يكن ليشمل الدولة الإسلامية، فما اصطلحوا عليه من حقوق وواجبات ومحاذير كانت لحماية الدول الأوروبية ومن لحق بها من الدول النصرانية فيما بعد. ولكنها بقيت محظورة على الدولة الإسلامية، والمسلمين عامة، حيث تم قبولها عام 1856م بعد فرض شروط قاسية عليها كعدم تطبيق أحكام الإسلام في العلاقات الدولية. وقد نشأ عن القانون الدولي المنبثق عن الأسرة الدولية النصرانية فكرة التوازن الدولي التي تحول بين الدول وبين التوسع على حساب أخرى، وفكرة المؤتمرات الدولية التي تنعقد للمحافظة على مصالح الدول الأوروبية خاصة الكبرى. فأساس القانون الدولي قد وجد للمحافظة على مصالح الدول الأوروبية أولا ثم الدول الكبرى فيما بعد.
وبعد أن تفسخت عرى القانون الدولي ومؤسساته خلال الحرب العالمية الأولى عادت بريطانيا وفرنسا لتأسيس الأسرة الدولية تحت اسم عصبة الأمم التي تبنت مرة أخرى ما كانت عليه الأسرة الدولية النصرانية من قوانين التوازن الدولي والمؤتمرات كأدوات استقرار لما عليه الوضع الدولي الذي تتحكم به الدول الكبرى حينها كبريطانيا وفرنسا. إلا أن عصبة الأمم لم تتمكن من الحفاظ على التوازن الدولي ومنع الحروب، لا من خلال معاهدات ولا مؤتمرات، فاندلعت حروب عدة أشهرها الحرب الصينية اليابانية عام 1933م، ومن ثم غزو ألمانيا للنمسا وتشيكوسلوفاكيا سنة 1938م، وبعدها بولندا عام 1939م، إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية سنة 1939م وانهارت عصبة الأمم (الأوروبية النصرانية المنشأ).
وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى سارعت الدول المنتصرة (الحلفاء) لإعادة بناء الأسرة الدولية وقوانينها في منظمة جديدة سميت الأمم المتحدة ونظمت تنظيما جديدا أضافت إليه مجلس الأمن الدولي كأداة قوية للحفاظ على الدول التي أطلق عليها الدول العظمى (أمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي والصين)، وأعيدت صياغة القانون الدولي على الأسس نفسها التي بنيت عليها قوانين الأسرة الدولية، وأنشئت لها محكمة العدل الدولية، وكذلك أنشئت منظمة التجارة الدولية وما تبعها من مؤسسات مالية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي من أجل تحقيق المصالح المالية للدول الرأسمالية الكبرى.
هذه لمحة سريعة عن نشوء ما يسمى القانون الدولي والمنظمات الدولية، فهي قد نشأت ابتداء واستمرت لتكون حامية ومدافعة عن الشعوب النصرانية تحديدا. فهي لا تأبه بقتل الأطفال والنساء وقصف المستشفيات ومصادر الطاقة والماء والاتصالات في بلاد المسلمين، كما شهدنا ذلك في غزة على يد كيان يهود، واصطفاف الدول الكبرى إلى جانبه من أول يوم كأمريكا وبريطانيا وفرنسا. ولكن هذه الدول نفسها لم تقف مكتوفة الأيدي في الحرب الروسية الأوكرانية، فهي بين نصارى من الجنس نفسه. وإبان الحرب العالمية الثانية لم تأبه الدول النصرانية لإلقاء القنبلتين الذريتين على اليابان، فتلك دولة لا يستحق شعبها الرأفة والحنان كما هو الجنس الأوروبي!
فالحقيقة التي لا يستطيع أن يماري بها أحد هي أن المنظمات الدولية خاصة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية وجدت لغايتين رئيسيتين؛ الأولى: لتمكن الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا من تحقيق مصالحها الاستعمارية من خلال مؤسسات صيغت قوانينها وتشريعاتها بشكل دقيق لتمكن هذه الدول الاستعمارية من تحقيق مصالحها بشكل تام. فمن الناحية المالية والتجارية تم إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي فرضت على معظم دول العالم قروضاً لا قبل لهم بسدادها، ومن ثم فرضت عليهم نقدا محددا أعطي صفة القداسة ولا يحق لأحد أن يسأل عن غطاء هذا النقد كما هو الدولار. أما الغاية الأخرى فكانت لتجعل من هذه المؤسسات ستارا حديديا منيعا يقف حائلا بين الشعوب والدول الضعيفة وبين الدول الكبرى، حتى إذا حلت بدولة مصيبة على يد إحدى الدول الكبرى فهذه أروقة الأمم المتحدة وحتى مجلس الأمن مشرعة أبوابها وما عليك إلا أن تدخل أروقتها وتقدم الشكوى وتذرف الدموع كما تشاء، ولكن لا تستطيع أن تصل لمبتغاك ولا تحقق غايتك أو ترفع الظلم عن شعبك ودولتك! فما قامت به أمريكا من احتلال للعراق وأفغانستان ومن قبل إبادة مئات الآلاف في فيتنام وكوريا، لم يكن لأحد أن يصلها مباشرة، فإن أردت فتلك أروقة الأمم المتحدة وما عليك إلا أن تقدم شكوى.
وقضية فلسطين منذ أن فرض عليها الاحتلال اليهودي بقيت تتردد وتترنح في دهاليز مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى يومنا هذا، وهي بعد كل قرار تجدها أبعد ما تكون عن حل منصف. وما قام به الكيان المحتل لفلسطين من أعمال في غزة تخالف كل ما وجد من قوانين دولية في وضح النهار، إلا أنه ترك يفعل ما يشاء لأن الدول الأوروبية النصرانية هي التي أوجدت الكيان لخدمة مصالحها، فلا يجري عليه القانون الدولي. ولو أن كيان يهود تنكر لحظة لمصالح الغرب النصراني لوجدتهم يحاسبونه على كل حجر قلبوه، أو طفل قتلوه، أو مبنى هدموه. ولكن يهود يعلمون تمام العلم أنهم في مأمن من شر الدول التي وضعت القوانين لمعاقبة من يتمرد عليهم.
وأمام كل هذا فالمسلمون لا ينبغي لهم أن يكونوا جزءاً من هذه المؤسسات الدولية ولا يركنوا لظلمها وظلامها، بل عليهم أن يواجهوا أعداءهم مباشرة وليس من وراء أنظمة وجدت ابتداء لحرب الإسلام والمسلمين منذ القرن السادس عشر!
ومن ينادي اليوم بمحاكمة دولة يهود أمام المحكمة الدولية، كان عليه أن يعلم أن هذه المحكمة وقانونها إنما وجد ابتداء لمحاربة الدولة العثمانية، والتي من المفروض أن تكون من أبنائها ولو عرقيا. ودولة الخلافة الإسلامية القادمة بإذن الله سيكون من أولى أولوياتها هدم هذه المؤسسات الباطلة التي تتمترس وراءها أمريكا وأوروبا واتخذتها جدرا للحماية، لتكون المواجهة مباشرة مع أعداء الله وأعداء الأمة، فيدفع الله بنا ظلم الظالمين ونذود حقيقة عن حقوق العباد ونقيم القسط بين الناس.
﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
رأيك في الموضوع