بالقدر الكبير من التضليل الذي مورس في قضية فلسطين بهدف تصفيتها والقضاء عليها، تعتبر الحرب الدموية الدائرة اليوم ضد غزة بشكل خاص وعموم فلسطين كافية بالقدر نفسه لإزالة ذلك الغبار الكثيف الذي يشوش الصورة لتظهر على حقيقتها، وتنقشع الغشاوة عن الأبصار لتتضح الرؤية.
مرة أخرى تنجح الأرض المباركة في تصحيح مسار الأمة، وضبط بوصلتها في الاتجاه الصحيح، ومنح الأمة الإسلامية فرصة للتعبير عن حيويتها، وامتلاكها مقومات الوحدة والنهوض، كما نجحت في المقابل في استعادة هويتها الإسلامية، الأمر الذي كان واضحاً وملموساً من خلال كم المظاهرات الحاشدة التي خرجت في عموم بلاد المسلمين على مدار أكثر من أسبوعين من الحرب على غزة، حتى شملت البلاد الغربية التي شهدت خروج العديد من المظاهرات المساندة والداعمة لأهل فلسطين كأستراليا والسويد والدنمارك وألمانيا وبريطانيا وأمريكا على سبيل المثال لا الحصر، والكثير من المواقف الشجاعة والمعبرة التي سجلها بعض الشخصيات بمختلف توجهاتهم من الدعاة والناشطين والرياضيين والفنانين ممن كسروا جدار الصمت مطالبين بتحرير فلسطين وتحرك الجيوش لإنجاز ذلك.
ولنكن في نظرتنا أكثر عمقا، بما يوضح صورة الصراع أكثر، باعتباره صراعاً حضارياً وعالمياً يقف على أحد طرفيه العالم الغربي الرأسمالي، وعلى الطرف الآخر تقف الأمة الإسلامية، والذي تتضح فيه حقيقة وطبيعة كيان يهود، ودوره في هذا الصراع كمشروع استعماري، وكيان وظيفي يخدم القوى الغربية وأهدافها الاستراتيجية في الهيمنة والسيطرة على المنطقة، بما تحمله فلسطين من قيمة جيوسياسية وعسكرية واقتصادية تمكن من يسيطر عليها من التحكم في العالم أجمع، الأمر الذي يدلل عليه الكاتب ستيفن غوانز في كتابه بعنوان، "(إسرائيل): رأس جسر إلى الشرق الأوسط"، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الأمريكي السابق كيسنجر في مقال له في وقت سابق واعتباره (إسرائيل) "أكبر حاملة طائرات أمريكية".
اليوم يتجلى هذا الأمر بوضوح من خلال تهافت القوى الغربية للوقوف بجانب كيان يهود مادياً ومعنوياً، عبر زيارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك، والمستشار الألماني أولاف شولتس، وتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بل إن مشاركة بايدن برفقة وزير خارجيته ووزير دفاعه في جلسات مجلس الحرب في الكيان يعطي دلالة واضحة بأن أمريكا هي من تدير هذه الحرب، وتتحكم في وضع أهدافها وخططها ومساراتها.
إنهم يستشعرون الخطر الكبير والتهديد الوجودي الذي يواجهه كيان يهود في حال تعدي الحرب ساحة غزة، وتمددها لتشمل الجغرافيا المحيطة بالكيان، والذي حذر منه الكثيرون بتجنب توسع دائرة الصراع، الأمر الذي يعني توسيع دائرة التهديد لتشمل كيان يهود وحراسه من الكيانات القائمة في بلاد المسلمين، والأنظمة الحاكمة بأمر ورعاية القوى الاستعمارية، الأمر الذي ينقلنا إلى هدف أكبر، وهدف استراتيجي ونوعي يجعل من تحرير فلسطين رغم أهميته وعظمته هدفاً جزئياً وتكتيكياً، هذا الهدف هو تحرير الأمة وتحررها من ربقة الاستعمار، واستعادة سلطانها وانفكاكها من قبضة عملاء الاستعمار من الحكام، وهو ما يفسر تصريحات كل من حكام مصر والأردن والسعودية وتركيا وإيران، بأن الحرب على غزة تهدد استقرار المنطقة، وفي السياق ذاته تأتي تحركاتهم المحمومة لعقد القمم والمؤتمرات، والترويج للحلول الاستعمارية لتصفية القضية كحل الدولتين الذي جدد وكرر المطالبة به المجتمعون في قمة القاهرة يوم السبت الماضي 21/10/2023.
أمام هذه الأحداث الجسيمة، والحرب التي تدور رحاها في غزة، وأمام غزارة الدماء الزكية، وكمية الإجرام والغطرسة التي يمارسها كيان يهود؛ يحاول الكثيرون تشويش الرؤية وتشتيت الانتباه، فمن جهة يتم تصدير المشهد الإنساني وحصر حاجة أهل فلسطين للمساعدات الإنسانية المتمثلة بالغذاء والماء والدواء والوقود والكهرباء، ومن جهة يتم تكريس الناحية الوطنية في إدارة الصراع، وحصر دور الشعوب الإسلامية في الدعم المعنوي والدعاء، ومن جهة ثالثة حل القضية بمطالبة القوى الدولية والمؤسسات الأممية للتدخل بوصفها الشرعية الدولية!
أمام هذا اللغط والغلط المركب تبرز الحاجة للعنصر الأكثر فاعلية، وبيضة القبان في صراعنا مع يهود، وفي مسيرة الأمة نحو تحررها واستعادة سلطانها، هذا العنصر يتمثل في جيوش المسلمين، والتي باتت الدعوة لتحركهم وأخذ دورهم في الانتصار لقضايا الأمة، والتي تقع فلسطين في مقدمتها، والانضمام إلى صفوف الأمة وإنجاز مسعاها في إسقاط الأنظمة الحاكمة في بلادنا، وعلى أنقاضهم تقام دولة الإسلام التي تطبق الإسلام، وتوحد الأمة وتجمع جهودها وقواها بما يمكّنها من خوض صراعها الحضاري مع الغرب بشكل فاعل ومنتج، باتت هذه الدعوة لتحرك الجيوش ملموسة ولافتة في هذه الحرب أكثر من أي وقت مضى؛ الأمر الذي جعل كيان يهود يتلمس خطورته فشن حملة اعتقالات ضد كل من يحمل هذه الدعوة ويروج لها، حيث أقدم على اعتقال الشيخ عصام عميرة من مدينة القدس بعد توجيهه خطاب استنصار للجيوش من أمام محراب المسجد الأقصى، وكذلك اعتقال الشيخ يوسف مخارزة من مدينة الخليل للسبب ذاته، وغيرهم العديد من الدعاة والناشطين على صفحات مواقع التواصل. كما تلقى بعض النشطاء التهديدات وأغلقت حسابات وحذفت صفحات جراء تداولها لمواد ومنشورات تدعو لنصرة الجيوش، وتحركها لتحرير فلسطين، ضمن سياسة محاربة المحتوى التي تمارسها الشركات القائمة على صناعة تطبيقات التواصل الإلكتروني المختلفة.
كما أن الأنظمة تسعى جاهدة لضرب العلاقة بين الجيوش والأمة، وصناعة خنادق من الدم بين العسكر والشعوب، ونشر ثقافة الخوف والجبن بين الناس، بما يخدم مصلحتهم في البقاء على عروشهم وضرب أي تحرك لخلعهم.
كما تم رصد تلاعب الإعلام في صياغة الرأي العام، وتوجيهه بما ينسجم مع توجهات المستعمرين والأنظمة الحاكمة المتواطئة في بلاد المسلمين، وكان من أبرزها ما تورطت به قناة الجزيرة؛ بنشر مادة معدلة من فيديو الممثل المصري محمد رمضان، حيث قامت بالتلاعب بالفيديو واقتطاع جزء من كلامه الذي دعا فيه بشكل صريح إلى تحريك جيوش المسلمين، واستخدام أسلحتهم المكدسة بدل تركها تصدأ في مخازنها، متسائلا عن الوقت المناسب لاستخدامها إن لم يكن لتحرير فلسطين في هذه الأيام؟!
من هنا ندرك أن دعوة استنصار الجيوش ليست ردة فعل عاطفية، وليست دعوة تقف عند تحرير فلسطين فحسب، بل هي جزء من مشروع تحرير وتحرر الأمة، باعتبار أن الدول لا تقوم إلا على المبادئ مستندة إلى قوة تحميها وتحرسها وتضمن تطبيقها، وهو ما تحتاجه الدولة الإسلامية في قيامها، فالإسلام هو المبدأ وجيوش المسلمين تقع على عاتقها الحماية والنصرة.
وبالرغم من أن قضية فلسطين منفصلة عن مسألة استئناف الحياة الإسلامية إلا أن الجيوش تشكل القاسم المشترك بينهما، وبقراءة الواقع نجد أن من يقف في وجه تحرك جيوش المسلمين لتحرير فلسطين هي تلك الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين التي تمثل جدار حماية لكيان يهود فصار لزاما إزالة هذا الجدار، لذلك كان شعار الجمعة الماضية 20/10/2023 "إسقاط العروش وتحريك الجيوش" يحمل الكثير من الواقعية والعملياتية.
وفي ظل الدعم المعلن واللامحدود من القوى الغربية الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا لكيان يهود، وتهديداتها لشعوب أمتنا الإسلامية من عواقب التدخل في نصرة أهل فلسطين، باتت الدعوة لتحرك الجيوش واستنصارهم أولوية قصوى وملحة، وعلى الأمة الإسلامية ألا تيأس أو تقنط من الاستمرار والإلحاح في مناشدة جيوشها، فهم إخواننا وأبناؤنا والخير فيهم كثير، والأمل في استجابتهم لا ينقطع، ويجب أن نبذل كل الجهود التي تضمن اصطفافهم في فسطاط أمتهم والانتصار لدينها وقضاياها.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع