تتغيّر السياسة الأمريكية في سوريا منذ بدء اندلاع الثورة وحتى الآن، فهي ما زالت تتبنى الخطط والاستراتيجيات نفسها، فترسل المبعوثين الأمميّين كالدّابي وكوفي عنان والأخضر الإبراهيمي ودي مستورا لحرف الثورة عن مسارها، ولتخذيل الثوار والتآمر عليهم، وتعقد مؤتمرات جنيف (1) وجنيف (2)، وتسعى لعقد جنيف (3) لدمج بقايا نظام الطاغية بشار في أية خطط سياسية مستقبلية لسوريا، وهي ما تزال تُشتت قوى الثورة، وتوجد لها أعداء جُدداً، لصرفها عن مواجهة النظام بحجة محاربة التطرف والإرهاب، فتختلق الصراعات فيما بين الثوار لإضعاف الثورة، وللحيلولة دون إسقاط النظام قبل ضمان وجود قيادة بديلة موالية لها، وتعمل ذلك بكل ما أوتيت من قوة.
ودمج النظام في نظر أمريكا لا يعني بقاء بشار الأسد في السلطة، بل يعني بقاء نظامه فيها، أو بمعنى آخر بقاء هياكل النظام الحالي، ومن أهمها استمرار سيطرة المؤسسات الطائفية على بعض قوى الجيش والأجهزة الأمنية مع دمج القوى الثورية الموالية لها فيه بشكل من الأشكال.
ومن ناحية خارجية فأمريكا ما زالت تتغاضى عن انخراط إيران وميليشياتها كلياً في دعم النظام، وما زالت تستخدم روسيا في مجلس الأمن لعرقلة أي قرار يمكن أن يصدر ضده، وهي لا تفعل شيئاً لوقف إمدادات روسيا الهائلة والمتواصلة للنظام بالأسلحة والذخائر التي تُمكّنه من الوقوف على قدميه.
لكنّ التغيرات التي طرأت مؤخراً على موازين القوى في سوريا أجبرت أمريكا على قبول إدخال بعض التغييرات في تكتيكاتها، فسقوط مدينتي إدلب وجسر الشغور في الشمال والقنيطرة وريفها وريف درعا ومعبر نصيب في الجنوب، وتوحد الفصائل المقاتلة في جيش الفتح وتنسيق هجماته، ودخوله إلى منطقة القلمون، وتنسيق الدعم التركي السعودي القطري، كل ذلك أوجد واقعاً جديدا يُخشى معه من سقوط النظام قبل أن تؤمّن البديل، وهو ما جعل أمريكا تتحرك سريعاً لكبح جماح الثوار، ولإيقاف تقدمهم بكل ما أوتيت من نفوذ.
وأمريكا قد أحيطت علماً بتنسيق الجهود السعودية التركية القطرية ضد الأسد، فقد نشرت صحيفة هافينجتون بوست الأمريكية تقريراً كشفت فيه عن وجود: "محادثات عالية المستوى بين تركيا والسعودية بوساطة قطرية لتشكيل تحالف عسكري للإطاحة بالأسد"، وقالت الصحيفة بأنّه تمّ "إطلاع أوباما وإعلامه بهذه الخطة منذ شهر شباط (فبراير) الماضي".
وكان الرئيس الأمريكي قد قال بعد اجتماعه بأمير قطر: "إنّه تبادل الأفكار مع الأمير حول كيفية الإطاحة بالأسد، وإنّ الأوضاع لن تستقر كلياً هناك إلاّ برحيل الأسد الذي فقد شرعيته بالحكم".
ومن جهة أخرى عبّرت أمريكا عن مخاوفها من ذلك التنسيق؛ فقد نقلت وكالة الأسوشيتدبرس عن مسؤول أمريكي قوله: "إنّ إدارة أوباما قلقة من أنّ التحالف الجديد (التركي السعودي القطري) يُساعد جبهة النصرة على كسب أراضٍ جديدة".
إنّ هذه التصريحات الأمريكية يبدو من ظاهرها أنّها متناقضة، لكنّ إزالة هذا التناقض يكون بمعرفة أنّ أمريكا لا تهتم بوجود الأسد نفسه كشخص في السلطة، وإنّما تُريد ضمان وجود دولة مدنية موالية لها في سوريا بوجود الأسد أو بدونه.
وتعمل أمريكا على تحقيق هدفها هذا من خلال تكتيكين اثنين هما:
الأول: جذب الفصائل المقاتلة إلى طاولة المفاوضات مع النظام من خلال عمل المبعوث الأممي دي مستورا الذي حقّق إنجازات نوعية في هذه الأيام خاصة مع بعض المجموعات الإسلامية المسلحة وفي مقدمتها جيش الإسلام، حيث قال عضو مجلس القيادة العسكرية في الجيش الحر رامي الدالاتي: "إنّ ممثلي نحو أربعة عشر فصيلاً عسكرياً أهمها جيش الإسلام وأحرار الشام وصقور الشام وجيش المجاهدين عقدوا اجتماعات الثلاثاء والأربعاء في تركيا لتأليف وفد للقاء دي مستورا".
ويُستخدم فصيل جيش الإسلام بقيادة زهران علوش كرأس حربة لحمل سائر الفصائل على الالتحاق بركب المفاوضات مع دي مستورا، فقد قال الإعلامي السعودي جمال خاشقجي المقرب من دوائر صنع القرار في السعودية: "إنّ زيارة زهران علوش لتركيا تفك آخر عقدة في التعاون السعودي التركي القطري في سوريا"، وفي تصريحه هذا دليل واضح على تبعية علوش للسعودية، وعلى تبني السعودية لخطة دي مستورا الأمريكية.
فـإن دي مستورا يعمل هذه الأثناء بكل جد واجتهاد، ويلتقي بممثلي النظام وأكثر من أربعين طرفاً سورياً وحوالي عشرين جهة إقليمية ودولية وممثلين عن المجتمع المدني والشتات السوري على نطاق واسع، وذلك لتمييع الإطار التمثيلي، ولإبعاد جعل الإسلاميين أهم من يُمثل السوريين.
ودي مستورا يسعى في خططه للعودة بالمتفاوضين إلى الانخراط بحل سياسي على أساس مؤتمر جنيف (1) وتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة متعددة الأطياف بما فيها النظام.
الثاني: دعوة إيران والسعودية وتركيا للمشاركة في مؤتمر جنيف (3) والتوصل مع كل هذه الأطراف إلى حلول وسط يتم من خلالها دمج جميع الذين يقبلون بمشروع الدولة المدنية، واستثناء كل القوى المتمسكة بمشروع الخلافة.
فقد قالت ماري هارف المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية: "إنّ الولايات المتحدة منفتحة على مشاركة إيران في الجولة القادمة من محادثات السلام"، وبالمقابل دعا وزير الخارجية الإيراني إلى: "حوار إقليمي لمعالجة الأزمات في سوريا والعراق واليمن".
فأمريكا تسعى بكل طاقتها لإشراك إيران في الحل بالرغم من عداء السعودية السافر لها، وهذا يتطلب المزيد من الصراع والاقتتال بين الميليشيات والتنظيمات المدعومة من إيران والسعودية وتركيا، وهو ما يؤدي إلى المزيد من الضحايا وسفك الدماء حتى تبلغ الأمور مداها لتصل إلى النضوج لتمرير الحل الأمريكي المقرر لها. وبغض النظر عن طول المدة أو فداحة الخسائر، فإن أمريكا لا تكترث بالدمار والخراب الذي يلحق بسوريا، فالمهم عندها فقط هو تمرير سياساتها وبقاء نفوذها.
هذه هي التكتيكات الأمريكية المستخدمة في سوريا، وهذه هي خططها، لكنّ كل هذه التكتيكات والخطط، سوف تفشل قطعاً إذا ما امتنعت الأطراف الرئيسية في الثورة من التعاطي معها، فيكفي لإبطال هذه السياسة الأمريكية التآمرية مقاطعة دي مستورا، والاستمرار في محاربة النظام وداعميه، لاجتثاثه من جذوره وإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة على أنقاضه.
رأيك في الموضوع