أطماع أمريكا في العالم الإسلامي وتخوفها منه ليست جديدة، ولم تكن وليدة نتائج الحرب العالمية الثانية حيث تبوأت أمريكا عرش الدولة الأولى في العالم، وإن كان الوجه الاستعماري لأمريكا في العالم الإسلامي قد ظهر بعد ذلك.
فقد بدأت أمريكا بالاصطدام بالأمة الإسلامية يوم كانت لها دولة هي دولة الخلافة مع نهاية القرن الثامن عشر حيث اضطرت أمريكا لتوقيع اتفاقية بغير لغتها تدفع بموجبها أمريكا للدولة الإسلامية مبلغ 12 ألف ليرة عثمانية ذهبية سنويا ووقع الاتفاقية جورج واشنطن أول رئيس لأمريكا وحسن بكلر عن الدولة الإسلامية، وكانت هذه المرة الوحيدة التي توقع فيها أمريكا اتفاقية بغير لغتها، وتدفع بموجبها لدولة أخرى ضريبة سنوية، ولعل هذه الاتفاقية حاضرة في أذهان كل الساسة الأمريكان يدركون بها معنى أن يكون للأمة الإسلامية كيان حقيقي.
وأطماع أمريكا في العالم الإسلامي بدأت بعد ذلك مع ضعف دولة الخلافة العثمانية، فكانت الحملات التبشيرية وكان زحف الشركات الأمريكية الباحثة عن الذهب الأسود، وهذه الشركات والبعثات التجارية كانت تصطدم بواقع أن بريطانيا وفرنسا لهما النفوذ المطلق في بلاد المسلمين نتيجة وراثتهما لما سمي بالرجل المريض "الدولة العثمانية" ونتيجة لسقوط دولة الخلافة الإسلامية فيما بعد، وقد كانت اتفاقية "الخط الأحمر" التي حصلت بموجبها أمريكا على حصة نفطية في نفط العراق من بريطانيا وفرنسا سنة 1928 مؤشرا لبدء الصراع على ثروات العالم الإسلامي، وكذلك في سنة 1933 حصلت ستاندرد أوف كاليفورنيا على امتياز لمدة 60 سنة في مقابل دفع 100.000 جنيه لابن سعود، يمنح الشركة حقوقًا مطلقة في التنقيب عن النفط، وإنتاجه في منطقة تقع في شرقي شبه الجزيرة العربيَّة تبلُغ مساحتها 360.000 ميل مربع، وهكذا بدأت تتغلغل الأطماع الأمريكية في منطقتنا بالرغم من الصعوبات التي واجهتها نتيجة العراقيل التي كانت تضعها بريطانيا صاحبة النفوذ المطلق في المنطقة في ذلك الوقت.
ثم بعد الحرب العالمية الثانية وصعود نجم أمريكا بدأت بالزحف لوراثة الامبراطورية البريطانية، وبدأت بقضم النفوذ البريطاني في العالم الإسلامي.
لذلك عند الحديث عن استراتيجية أمريكا في العالم الإسلامي لا بد أن يكون حاضرا في استراتيجيتها كجزء أساسي أمران: الأول الحيلولة دون عودة الدولة الإسلامية ككيان حقيقي تتمثل به الأمة الإسلامية ويسير بها لتقتعد مكانتها الطبيعية، والثاني الثروات الضخمة التي منّ الله سبحانه بها على الأمة الإسلامية في هذه المنطقة ولعل النفط لا يشكل إلا جزءا يسيرا من هذه الثروة العظيمة.
ونجد هذين الأمرين يشكلان جوهر استراتيجية أمريكا في العالم الإسلامي خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وبدء الحديث عن تصادم الحضارات، واعتبار الإسلام العدو القادم، على الرغم من تفاوت أساليب التعبير من رئيس لآخر ومن إدارة لأخرى، فكان حديث بوش الابن سابقا واضحا في العداء للإسلام والتحذير من عودة دولة الخلافة الإسلامية، وخاض حروبا دامية في العالم الإسلامي تحطم فيها كبرياء أمريكا، وتولدت في العالم الإسلامي مشاعر الكراهية والعداء لأمريكا، وبدأت مصالح أمريكا ونفوذها في المنطقة يتأثر، فجاءت إدارة أوباما محاولة إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة وتخفيف حدة العداء لأمريكا ومحاولة تجميل صورتها القبيحة في المنطقة. وبالرغم من هذا التغير في الأساليب وفي طبيعة الخطاب بين الإدارتين إلا أن جوهر استراتيجية أمريكا بقي واحدا في التعامل مع العالم الإسلامي؛ السيطرة على المقدرات والثروات والحيلولة دون عودة الإسلام إلى واقع الحياة.
وعندما أعلنت إدارة أوباما وثيقة استراتيجية الأمن القومي في شهر شباط 2015 جاء في الوثيقة في بند النظام العالمي وتحت عنوان (السعي لتحقيق التوازن والسلام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا):
(في الشرق الأوسط، سنقوم بتفكيك الشبكات الإرهابية التي تهدد شعبنا، ومواجهة العدوان الخارجي ضد حلفائنا وشركائنا، وضمان التدفق الحر للطاقة من المنطقة إلى العالم، ومنع تطوير وانتشار الأسلحة النووية، أو استخدام أسلحة الدمار الشامل. في نفس الوقت، نحن لا نزال نتطلع لمنطقة الشرق الأوسط برؤية السلام والازدهار، حيث تتجذر الديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان...
حل هذه الصراعات متصلة، وتمكين الاستقرار على المدى الطويل في المنطقة، يتطلب أكثر من استخدام وجود القوات العسكرية الأمريكية، فهو يتطلب الشركاء الذين يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. ولذلك نحن نستثمر في قدرة إسرائيل والأردن وشركائنا في الخليج لردع العدوان مع الحفاظ على التزامنا الثابت بأمن إسرائيل، بما في ذلك بقاؤها في قمة التفوق النوعي العسكري. ونحن نعمل مع الحكومة العراقية لحل شكاوى السنة من خلال مزيد من المشاركة في الحكم. مع شركائنا في المنطقة وحول العالم، نحن نقود استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب... في الوقت نفسه، نحن سوف نستمر في السعي إلى حل سياسي دائم للصراع المدمر في سوريا. الاستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتطلب أيضا الحد من الأسباب الكامنة وراء الصراع. وبالتالي أمريكا ستواصل العمل مع الحلفاء والشركاء نحو حل شامل باتفاق مع إيران ينهي قلق المجتمع الدولي من البرنامج النووي الإيراني. ونحن لا نزال نكرس جهودنا لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال حل الدولتين الذي يضمن لإسرائيل الأمن وقدرتها على البقاء في فلسطين. ونحن سوف ندعم الجهود الرامية إلى تقليل حدة التوترات الطائفية والعنف بين الشيعة والسنة في جميع أنحاء المنطقة. سنقوم بمساعدة البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية لعمل الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وبناء قدرة الدولة على الحفاظ على الأمن والقانون والنظام، واحترام الحقوق العالمية. في هذا الصدد، ونحن نسعى إلى اليمن المستقرة التي تتعهد بإصلاحات هيكلية صعبة وتواجه تهديدا نشطا من القاعدة ومتمردين آخرين. سنعمل مع تونس لتحقيق مزيد من التقدم على بناء المؤسسات الديمقراطية وتعزيز اقتصادها. سنعمل مع الأمم المتحدة ونحن والشركاء العرب والأوروبيون في محاولة للمساعدة في استقرار ليبيا والحد من التهديد الذي تشكله الميليشيات والمتطرفين الخارجين على القانون. وسنحافظ على التعاون الاستراتيجي مع مصر لتمكينها من الاستجابة للتهديدات الأمنية المشتركة، بينما نوسع شراكتنا ونشجع التقدم نحو استعادة المؤسسات الديمقراطية)
فهذه الاستراتيجية تقوم على السيطرة على الثورة ومحاربة الإسلام، وتتخذ إدارة أوباما لتحقيق ذلك أسلوب قيام عملائها بالحرب نيابة عنها إذ لا حاجة لتدخلها بنفسها في حالة وجد في المنطقة من يقوم بهذا الدور، ومن ربط حركة عملاء أمريكا في المنطقة بهذه الإشارات يتبين أن أمريكا تسير على سياسة صناعة التوازن بين عملائها وتوزيع الأدوار، فإيران بعد أن مهدت أمريكا لها الطريق برفع العقوبات وإنجاز الاتفاق النووي ستصبح قادرة على أداء دور أكثر فاعلية لخدمة مصالح أمريكا في المنطقة، ثم الحلف السعودي المصري التركي الباكستاني السوداني الذي ظهر في الحرب على اليمن، أنتج أداة أخرى لخدمة مصالح أمريكا، فما لا تستطيعه إيران تستطيعه السعودية وتركيا والعكس صحيح. كما أن هذا يغذي التنافر المذهبي، ويقوي حالة العداء المتوازن بين السنة والشيعة، لتكون كل جهة مسلطة على الجهة الأخرى وتكون أمريكا هي الضامن لتوازن القوى في المنطقة ما بقيت هذه القوى في خدمتها.
وبالرغم من هذا كله فإن الأمة الإسلامية قادرة بإذن الله على قلب الطاولة على أمريكا وعملائها، فأمريكا تعتمد على عملاء انكشفت حقائقهم، وظهرت خيانتهم لأمتهم.
والثلة الواعية في الأمة الإسلامية قادرة بإذن الله على فضح حقيقة عملاء أمريكا ومخططاتها، وما كان يصلح بالأمس وينطلي على جمهور الناس لم يعد له فاعلية تذكر، وهذا الوعي الذي ينبت في الأمة وتسقيه وتغذيه ثلة التحرير الواعية كفيل بأن يخرج نباته طيبا يانعا، قال تعالى ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾.
رأيك في الموضوع