أسدل الستار في الثامن من هذا الشهر على المسرحية الانتخابية في بريطانيا وتنفس الكثيرون الصعداء فرحين أنهم سيرتاحون منها لخمس سنوات قادمة بينما استمر آخرون في الجدل السياسي الذي تزامن مع الانتخابات. تحمّس الناخبون وشاركوا إلا أن الأغلبية أصابها فتور انتخابي لافت. هذا وقد تميزت الانتخابات بمفاجآت الاستقالات فقد قدم "إد ميليباد" زعيم حزب العمال الغريم التقليدي للمحافظين استقالته بعد الهزيمة النكراء وخسارته للكثير من مقاعده التقليدية، كما استقال "نيكولاس كليغ" زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار، واستقال كذلك "نايجل فراج" زعيم الحزب اليميني المتطرف حزب الاستقلال من زعامة حزبه بعد الخسارة الكبيرة وفقدانه لمقعده في البرلمان.
فاز حزب المحافظين "بزعامة ديفيد كاميرون" وحصل على أغلبية تغنيه عن إبرام تحالفات لتشكيل الحكومة، وقد كان الاقتصاد الملف الأقوى في الانتخابات. وارتكز هذا النجاح إلى تجنيب مالية الدولة من الانهيار وتحقيق توازن اقتصادي،خصوصاً بعد أن ذكّر كاميرون الناخبين أن حزب العمال سلم خزينة فارغة بعد خسارته الفادحة وأن سياسات حزب العمال تميزت بالصرف واستنزاف الدولة. فاز المحافظون بالرغم من سياسة التقشف والاستقطاعات التي انتهجوها واتساع دائرة الفقر، فازوا بالرغم مما كشف أخيرا من تقارير تكشف معاناة الناس في قطاعات شتى واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وتزايد عدد المليارديرات. صوت الناس لمصالحهم الشخصية وتعامت الأغلبية عن بنوك الطعام ومطابخ الحساء المتزايدة والتي يرتادها العاجزون عن توفير لقمة عيش كريمة في بلد غني.
خلق الإعلام من ملف الهجرة هاجساً لدى أغلبية الشعب البريطاني وتكونت صورة عن حزب العمال أنه متساهل مع ملف الهجرة وأن سياساته هي السبب في تغير التركيبة السكانية للبلاد كما أن النزعة القومية أدت إلى اختيار أحزاب قومية بشكل لافت للمرة الأولى فقد فاز الحزب القومي الأسكتلندي فوزاً صدم حزب العمال وأدى إلى خسارتهم الفادحة في أسكتلندا حيث صعد رصيد الحزب القومي الأسكتلندي من 6 مقاعد في انتخابات 2010 إلى 56 مقعداً من أصل 59 في أسكتلندا.
أظهرت هذه الانتخابات فشل النظام الانتخابي البريطاني المعقد الذي يحصر الفائزين في من يحصل على الأغلبية النسبية بغض النظر إذا كانت أقل أو أكثر من 50%، ويتم هذا في 650 دائرة انتخابية موزعة في أرجاء البلاد. وبهذا يفوز حزب ويصل لسدة الحكم بينما تظل الحكومة المنتخبة حكومة أقلية لا تمثل الشعب. وعلى سبيل المثال حصل الحزب القومي الأسكتلندي على 56 مقعداً في البرلمان بحكم تمركزه في منطقة واحدة. عاش الناس في أيام الانتخابات مفعمين بالحماس وشعروا بنشوة الانتصار عبر مجرد المشاركة التي تمنح كل واحد منهم حق تحديد مسار البلاد ثم استيقظوا من أحلامهم في إحباط وحيرة، لم تكن مشاركتهم سوى طقوس رمزية تضفي شرعية لحكم شخص لم ينتخبه الشعب. لم تكن سوى إيهام مؤقت بأن لهم دوراً في مسرحية معقدة. بدأت الانتخابات وانتهت ولم يكن لها تأثير على رجل الشارع البسيط الذي شعر أن لا قيمة لصوته الانتخابي.
لعل العوامل الأكثر بروزا من هذه المسرحية الانتخابية هي رباعي التململ والقومية والعنصرية والطبقية. ضاق الكثيرون من العملية الديمقراطية التي لن تؤدي لأي تغيير يذكر، وظهر شبح القومية في أسكتلندا وغيرها، ولم يؤدِ الاستفتاء الأخير على استقلال أسكتلندا إلى تحقيق وحدة وطنية بل أدى إلى هدنة على مصالح اقتصادية بالدرجة الأولى. والتركيز على هذه المصالح يقتضي أن تؤجل أسكتلندا أمر الانفصال عن بريطانيا، ولكن شبح هذا الانفصال لا زال موجوداً خصوصاً مع الفوز التاريخي للحزب القومي الأسكتلندي. تفشت القومية كما تفشت العنصرية والعداء للمهاجرين عموماً والمسلمين على وجه الخصوص، وأصبحت الإسلاموفوبيا سمة بارزة في البلاد. أما الطبقية فقد وصلت لمستوى أثّر على جميع الخدمات فأوشك نظام التأمين الصحي والتعليم المجاني والتأمينات الاجتماعية على الانهيار. ظهرت هيمنة رأس المال وأثبتت الانتخابات أن الفروقات تكاد تتلاشى بين الأحزاب السياسية المتصارعة على الحكم ولم تظهر فوارق تذكر بين اليمين وأقصى اليمين والأحزاب الأخرى بل إن الفروقات تكاد لا تتعدى كونها درجات من اللون الرمادي المهادن لرأس المال.
احتار الناخبون من ضجيج السياسات والمهاترات وتمنى البعض عودة سيطرة الحزبين على الساحة السياسية مدعين أن الوضع السياسي كان أقوى عندما كان الصراع منحصراً بين المحافظين والعمال. لم يشهد العالم هذا الصراع المزعوم في السياسة الخارجية، ولعل هذا المقام لا يتسع لسرد الأمثلة في تطابق ووحدة سياسات العمال والمحافظين. لعل الأمر لا ينحصر في السياسة الخارجية فقط بل يبدو هذا واضحا في التشريعات المتعلقة بالجالية المسلمة وسياسات الحد من التطرف حيث لم تبدأ هذه السياسات في عهد المحافظين بل في فترة حكم حزب العمال وأكمل المحافظون على نفس الوتيرة.
نعم لقد هيمن نظام الحزبين على السياسة البريطانية لأكثر من مئة عام ولكن الحزبين كانا على الدوام وجهان لعملة واحدة، وحقيقة الحال أن البلاد يحكمها حزب واحد وهو حزب رأس المال. تلاشت الفروقات بين المحافظين حزب العمال الذي يميل للوسط ويبعد نفسه عن الصورة التقليدية والتيار التقدمي للمحافظين. أما الوضع الراهن فبالرغم من ازدياد الأحزاب المشاركة في الخارطة السياسية للبلاد ولكن زيادتها لم يعنِ المزيد من التمثيل السياسي بل المزيد من الحيرة والتهميش للإنسان العادي الساعي للتغيير.. أتت الانتخابات وانتهت فتركت بريطانيا أكثر فرقة وحيرة في مستقبل الوحدة ومستقبل الديمقراطية معاً، فكانت الديمقراطية التي يفسرونها على أنها حكم الشعب للشعب وعن تجربة أكبر خسارة للشعوب في بريطانيا وفي كل بلد يكرسها. فعزّ سبحانه القائل ﴿إن الحكم إلا لله﴾
رأيك في الموضوع