إنّ الفكرة والقوة هما عماد كل دولة، أية دولة، وبمقدار ما تطغى إحدى الركيزتين على الأخرى تتجه الدولة نحو الرقي أو الارتكاس، وإذا ما اجتمعت الركيزتان في انسجام وتجانس كانت الدولة قوية راسخة ناجحة، وبالطبع لا تستمر دولة إذا ما فقدت الركيزتين، بل تنهار وتندثر.
فالرسول ﷺ، عندما أسس دولة امتدت من بعده قرابة الـ13 قرنا، ومضت عليها قرون عديدة كانت فيها الدولة الأولى في العالم، بدأها بفكرة عظيمة وكتل حولها ثلة من الرجال حفروا الفكرة في صدورهم وبثوها بألسنتهم وجوارحهم، وأوجدوا لها رأيا عاما ووعيا عاما وقاعدة جماهيرية عريضة، ثم التمس ﷺ القوة من مظانها حتى يسرها الله له، لتجتمع عندها الفكرة والقوة فتتأسس الدولة، وتبدأ بالصعود والنمو والامتداد، ليصل نورها وسلطانها فيما بعد إلى قارات العالم الثلاث.
ولأن القوة والفكرة التقتا في الدولة الإسلامية، بل وامتزجتا امتزاجا رائعا، عاشت الدولة قرونا عديدة وكانت منارة للدنيا، ولما تراجعت الفكرة في قلوب وصدور القائمين على الدولة والوسط السياسي الحاكم والحاضنة الشعبية، وتضعضعت القوة التي ترتكز عليها الدولة، وبتآمر القوى الخارجية وتعاون العملاء تمكنوا من هدم الدولة وإنهاء الخلافة دون أن يجدوا مقاومة تذكر. وأقاموا على أنقاضها حكما جبريا مرتكزا على الجبر والقوة، لنقف اليوم على أعتاب العام المائة لهذا الحكم الجبري.
ونظرة إلى الدول القائمة في البلاد الإسلامية، تُري حجم الضعف والتهاوي الذي أصاب الأنظمة القائمة فيها، إلى درجة أنها لن تحتمل ضربة قوية واحدة فضلا عن طوفان قادم متمثل بإعلان الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
فمن ناحية الفكرة، فالأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية لم تكن حتى في أفضل أيامها تعتمد عليها بشكل أساسي أو رئيسي، بل توسلت بعض الأفكار الجزئية أو العامة، في أوقات وظروف مرحلية سرعان ما تبددت بعدها الأفكار وانكشف زيفها وانفضح كذبها، كالوطنية والقومية العربية والبعثية والاشتراكية والتحررية والديمقراطية والعلمانية والإسلام الوسطي والاعتدال والمقاومة والممانعة، وانفضح معها رموزها ورجالاتها، حتى احترقت ولم تعد تستر عورات القائمين عليها أو تسند الأنظمة التي تحمل لواءها.
أما الركيزة الأهم، وصاحبة الوزن الأكبر في إسناد الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية، فهي القوة، بل قل الحديد والنار، فقد اعتمدت الأنظمة على جبروتها وبطشها بالشعوب، قتلا وتجويعا وتهجيرا وسجنا وتعذيبا، بل واغتصاباً وانتهاكاً للمحرمات واستعمالَ كل أنواع البطش والقسوة والترهيب حتى أوصلوا كثيرا من الناس إلى حالة من الرعب والفزع من الأنظمة وأجهزتها الأمنية، ورسخوا بذلك قناعات باستحالة الخلاص أو الانفلات أو التمرد أو الإطاحة بالأنظمة.
ثم دارت الأيام والسنون وخرج من رحم الأمة الرجال الذين واجهوا الطغيان بأرواحهم، وضربوا بإخلاصهم وثباتهم وجرأتهم نماذج أوقدت في الأمة روح التحدي وأشعلت فيهم شعلة الأمل بالتغيير والقدرة على التصدي للأنظمة وجبروتها، ثم جاءت ثورات الربيع العربي لتبرهن على قدرة الشعوب على التغيير والخلاص من الأنظمة الجبرية، فأدرك الناس هشاشة الأنظمة وخوارها، وبدأت الشعوب تستعيد ثقتها بنفسها وبقدرتها على التغيير.
ورغم كل محاولات الأنظمة والغرب استعادة هيبة الأنظمة وأجهزتها الأمنية بمجازر واعتقالات وإجرام إلا أنهم لم يتمكنوا أن يمحوا من ذاكرة الشعوب قدرتها على الإطاحة بالأنظمة خلال يوم أو أسبوع، فما زالت الأمة تحفظ مشهد هروب بن علي وسقوط الطاغية حسني مبارك ونهاية القذافي وعلي عبد الله صالح، وباتت كل محاولات الأنظمة لفرض معادلة الرعب من جديد تبوء بالفشل حتى أصبحت الأنظمة تخشى الناس أكثر من خشية الناس لها.
ولقد أصبح من المسلمات عند الأنظمة أنها لا تقوى على مواجهة جموع الناس إذا ما ثارت، وأنها تفتقد إلى القوة الحقيقية التي تسندها وأنها أقرب إلى النمر الورقي من الحقيقي، ولذلك تنصب كل جهودها على منع لحظة الصفر أو تأخيرها، لأنها أدركت تماما أنها لن تصمد في لحظة الصفر التي تجتمع فيها إرادة الأمة أو ينحاز فيها جزء من أهل القوة والمنعة إلى إرادة الأمة.
والأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية ومن خلفها الغرب المستعمر يدركون أن الأمة وصلت إلى درجة كبيرة من القناعة بالحاجة للتغيير، وأنها لم تعد ترى بديلا عن الإسلام كمستقبل لها، وهو ما دفع الغرب إلى دعم المعتدلين والمتطرفين لامتطاء الإسلام منذ سنوات من أجل إدخال الأمة في متاهة لسنوات ريثما يجد الغرب بديلا آخر يخدع به المسلمين، وكذلك باتت الأنظمة والغرب من خلفها يدركون أن عقدة الخوف عند الأمة قد انحلت، ولم تعد الأنظمة تشكل بُعبعاً لها كما كانت في السابق، ومسألة الوقوف في وجهها باتت ممكنة في أية لحظة وعند أي فرصة.
وإذا ما أضفنا إلى مسألة فقدان الهيبة والقدرة على إرهاب الأمة، مسألة انفضاح الأنظمة وخلوها من الأفكار التي تجمع حولها شعوبها، يظهر بوضوح مدى عجز الأنظمة عن القدرة على التصدي لطوفان الخلافة القادم، أو القدرة على الوقوف في وجه الأمة إذا ما حانت ساعة الصفر وأقيمت الخلافة الراشدة الثانية في إحدى البلاد الإسلامية.
فالأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية قد اهترأت ونخرها السوس من أخمص قدميها حتى أعلى رأسها، وهي باتت تصل ليلها بنهارها من أجل أن تتمكن من تأخير انفلات الأمور من أيديها وخروجها عن سيطرتها، وهي تتصرف كمن يدرك مصيره ولكنه يحاول تأخيره، وكما يُقال عقارب الساعة لا تعود للوراء، فما مضى قد مضى ولن تعود الأمة إلى ما كانت عليه من خوف أو رعب من التغيير، ولن تعود الأنظمة إلى ما كانت عليه من فرض الواقع وإحكام القبضة.
وإذا ما أقيمت دولة الخلافة قريبا بإذن الله فلن تجد الأنظمة وأزلامها بُدّاً من محاولة الهروب قبل أن يقعوا في أيدي الأمة فتصنع فيهم شيئا مما أذاقوه لها من قبل، أما محاولة التصدي أو الوقوف في وجه طوفان الخلافة والأمة فقد باتت من الأحلام لا الواقع.
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع