لم يعِ الجيل الحاضر على الدولة الإسلامية "الخلافة"، ولم يعش في كنف ظلالها الوارفة ولم يشعر بالعظمة التي كانت تلف جوانبها، كما أنه لم ير العدل الذي كان سائدا فيها، وإنما تفتحت عيناه على أشباه حكام ومشيخات وكيانات هزيلة لا تمثل الأمة ولا تنتمي إلى عقيدتها، صنعها الاستعمار على عينه لتحفظ مصالحه وتفرق الأمة شذر مذر، تكرس عقيدة فصل الدين عن الدولة، بل أكثر من ذلك فهو لم ير فيها يوما عدلا ولا إنصافا لمظلوم ولا ردا لكيد أعدائها، فلم ير سوى هزائم تتلوها هزائم، ورأى دجلا وألاعيب صورت الهزائم والانكسارات والنكبات انتصارات يحتفل بها كل عام، كما عاش فقرا وعوزا وفاقة لم يمر على الأمة مثلها أبدا حتى في أشد حالات القحط التي مرت بها طوال تاريخها الطويل. وبرغم كل هذا الهوان ترى البعض من أبناء هذا الجيل ينظر للخلافة نظرة سيئة ويفضل الأنظمة المعاصرة التي قامت على أنقاضها! وقد ساهم في تلك النظرة السلبية للدولة الإسلامية عند بعض أبناء الأمة عوامل عدة من أبرزها:
1- حالة الانحطاط التي أصابت الأمة والتي بلغت ذروتها في القرن الأخير لدولة الخلافة، والتي أدت إلى فقدان الأمة للمقاييس الصحيحة التي تمكنها من إصدار أحكام صحيحة على الواقع؛ ذلك أن الأمة لم تتخذ الإسلام أساسا لوجهة نظرها في الحياة بعد أن دخلها الغبش وتأثرت بالغزو الثقافي والتبشيري أيما تأثر.
2- التشويه المتعمد لتاريخ الدولة الإسلامية والذي قام به المستشرقون وتلامذتهم من أبناء الأمة الذين صوروا تاريخ الأمة بشكل مشوه، والعجيب أن بعض أبناء الأمة قد ساهموا في هذا التشويه بعد أن باعوا أنفسهم لشياطين الشرق والغرب ليصرفوا الأمة عن إسلامها فضلا عن المطالبة بعودة دولة الخلافة التي هدمها الغرب الكافر.
3- نهضة أوروبا التي حصلت في الوقت الذي تخلف فيه المسلمون عن ركب الحضارة بعد أن أصابهم الانحطاط وفقدان طريقة التفكير المنتجة، ولما كانت نهضة أوروبا قد تمت بعد أن فصلت الدين عن الحياة بعد ذلك الصراع الدامي بين رجال الفكر من جهة وبين الكنيسة والملوك من جهة ثانية، لما كان ذلك توهم البعض أن لا سبيل للنهضة إلا بحذو أوروبا حذو القذة بالقذة وفصل الإسلام عن الدولة والحياة والسياسة، ومن هنا تصور البعض من أبناء الأمة أن الدولة الإسلامية ما هي إلا دولة دينية كالتي كانت قائمة في أوروبا في العصور الوسطى، والتي لا بد من الحرص على عدم عودتها مرة ثانية.
4- حرص الغرب على عدم عودة الخلافة مرة ثانية، فهو لم ولن ينسى كيف كانت الخلافة حصنا حصينا للأمة الإسلامية، بل ووقفت جيوشها على أسوار فينّا وكادت أوروبا بأكملها أن تخضع لسلطانها، ولذلك كان من شروط الصلح مع تركيا بعد الحرب العالمية الأولى التخلي عن الخلافة وعن الإسلام في العلاقات الخارجية. ولقد جيش الغرب في الأمة جيشا من مدعي الفكر والثقافة سنوا أقلامهم في الهجوم على نظام الخلافة لتشويهها في أذهان الأمة، ولقد نجحوا في مهمتهم تلك نجاحا كبيرا في فترة من الفترات مما كان له أكبر الأثر في نفوس أبناء الأمة الذين كانوا ينظرون لهؤلاء وأمثالهم نظرة إكبار واحترام، ولقد مضى وقت طويل وبذلت مجهودات جبارة حتى تم كشف هؤلاء الأدعياء وفضحهم وتعريتهم أمام أبناء الأمة.
ولما رأى الغرب أن كل مجهوداته السابقة في تشويه الخلافة وفي إبعاد الأمة عن المطالبة بها والسعي لإقامتها مرة ثانية قد ذهبت أدراج الرياح، وأن الأمة قد استفاقت من غفوتها مرة ثانية، وأن المخلصين فيها قد شمروا عن ساعد الجد لإقامتها من جديد، وبعد أن بذل حزب التحرير ومعه المخلصون في الأمة جهودا جبارة لإعادة صورة الخلافة نقية صافية كما كانت، كان ما كان من استغلال ما أعلنه تنظيم الدولة الإسلامية من قيام دولة خلافة مشوهة تُنفِّرُ الأمة وتبعدها عن المطالبة بعودتها مرة ثانية، ولقد ساعدهم في نجاح ذلك الأمر ما قام به التنظيم من جرائم نفّرت بعض أبناء الأمة من الخلافة ظنا منهم أن هذه هي الخلافة.
ومن هنا كان لا بد من تبيان صورة الخلافة الحقيقية المنشودة وأنها ستكون إن شاء الله على منهاج النبوة، وأنها الدولة التي ستكون نموذجا فذا سينبهر العالم به وستشرئب لها الأعناق وسينكشف به زيف الغرب وأنظمته وعملائه في بلادنا. كما لا بد من التصدي للمضبوعين بالغرب في بلادنا الذين انبروا في هذه الأيام للهجوم على فكرة الخلافة وحملة لوائها.
وإنا لنسأل الله العلي القدير أن يكلل جهود تلك الثلة المؤمنة بالنجاح فتتكحل أعيننا برؤية الخلافة على منهاج النبوة من جديد ماثلة في أرض الواقع، لتنعم الأمة بحياة إسلامية حقيقية، يعز فيها الإسلام وأهله ويذل فيها أهل الكفر والنفاق.
إن همّ حزب التحرير الذي يعمل له منذ أول يوم وجد فيه، هو استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة على منهاج النبوة، وهو همه الحقيقي الذي لن يتحول عنه، لأنه الفرض العظيم، الذي اتخذه طريقا له، سلكه رسول الله ﷺ، والله تعالى أمرنا به حين قال: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فحزب التحرير والحمد لله أدرك طريقه، وهو طريق محمد ﷺ، الذي لا ينطق عن الهوى، والحزب لا يسعى إلى الخيال كما يدعي الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم أنفسهم، بل هو يسعى إلى تحقيق وعد الله سبحانه وبشرى رسوله ﷺ، إلى إقامة الخلافة التي أصبحت اليوم مطلبا لدى الأمة وأملا تسعى إلى تحقيقه مع حزب التحرير.
رأيك في الموضوع