إن ما حصل في أمريكا هو تداعٍ للمبدأ الرأسمالي، وإن كان هذا المبدأ برمته قد دخل في مرحلة أفول منذ بداية تسعينات القرن الفائت مع بداية حرب الخليج الأولى، التي كشفته ممثلا بزعيمته أمريكا التي جعلته إلها من تمر لما جاعت التهمته؛ فمن سجن أبو غريب إلى غوانتنامو إلى التعذيب الممنهج في السجون السرية في أمريكا الجنوبية، كل هذا كشف الوجه الحقيقي لحضارة الحرية ودعاة الإنسانية فبات العالم مصدوما مما يراه ويشاهده بعد أن كشرت أمريكا عن أنيابها وبدأت تغزو العالم، من العراق إلى الصومال إلى أفغانستان، وبالطبع ليست وحدها وإنما تشرك معها دول الحريات بريطانيا وفرنسا وغيرهما.
إن تصدر رجال على شاكلة ترامب رأس المشهد في الدولة الأولى في العالم هو عقم في النظام ورجالاته، أشبه ما يكون بالحالة التي عاشها الاتحاد السوفيتي لما انقلب على نفسه، مع بعض الفروقات، حيث إن النظام الرأسمالي ليس نظاما فرديا بالمعنى الشيوعي، وإنما تقوم عليه مؤسسات هي التي تحدد شكل العلاقات التي تريد أمريكا رسمها مع الدول، فشركات الأسلحة والطاقة التي تقتات على الدماء وإشعال الحروب، ربما كانت ترى في ترامب مسعّر حرب، وأن أرباحها ستزيد في أجواء التوتر وإشعال الحروب، أما الشركات التكنولوجية فإن عملها سيكون أفضل في وضع السلم وقلة الحروب والمحافظه على السلام العالمي، وربما هذا ما دعاها للإتيان ببايدن.
على كل حال فإن دولة المؤسسات هذه بدأ السوس ينخر فيها من كل جانب، وما شكل التظاهر الذي حصل واقتحام الكونغرس وظهور أشكال آدمية بقرون، إلا تعبير عن تداعي مبدأ وسقوط لأوراق التوت التي تغطي عورته، ولو لم يكن لترامب إلا أنه كشف أن الصراع في أمريكا هو صراع على شكل الدولة والنظام الرأسمالي لكفى، فالإعلام مزيف والقضاء مزور بحسب ادعائه، بل فوق هذا وذاك فإن الرجل يتصرف مثل السيسي دكتاتوره المفضل أو مثل بشار عميله في الشام.
لقد حذر ابن خلدون في مقدمته قبل مئات السنين من أن اندثار الدول تكتنفه عوامل منها بل على رأسها، الجمع بين التجارة والإمارة، وإن أمريكا رائدة المبدأ الرأسمالي وحاملة لوائه ربما أدركها الهرم، وسيجري عليها ما يجري على الدول، وإنها مدركة ذلك لا محالة، وإن سنة الله لا تتجاوز أحدا ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾، فزوال المبدأ يتناسب طرديا مع القائمين عليه، وإن أمريكا اليوم ما عادت تستطيع إنجاب وسط سياسي ورجال حكم كما كانت في سابق عزها ومجدها، أمثال أيزنهاور وروزفلت وكيسنجر، والدولة إذا أدركها الهرم فإن لها أجلا ستبلغه، وإننا لا نقول هذا بالقدرية الغيبية، وإنما هو استقراء يجري على الدول كلها، وهو مُدركها لا محالة، وإن كسر الدول العظيمة لا ينجبر؛ فالمبادئ هي أس الدول وأساسها، والنظام الرأسمالي قد ترك المبدأ ولفظ العقيدة، ولم يعد يعتني إلا بالمصالح وتحقيق المكاسب، فهو أقرب ما يكون لسوق الأسهم والبورصة، وهذا ربما يطيل من عمره قليلا ويزيد في بقائة برهة من التاريخ، ولكنه بالتأكيد لا يدوم.
إن الصراع الذي تشهده أمريكا اليوم بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري هو أقرب إلى كسر العظم منه إلى التنافس الرياضي، وإن وضع العراقيل أصبح يطال العقيدة والنظام برمته، وإن الانقسام القديم الجديد الذي يلف الشعب الأمريكي من كل جانب هو انقسام فكري عقدي؛ ولم يجانب الصواب أحد الكتاب الذي ينظر للقوى التي تتحكم بشكل الدولة الأمريكية بالمليشيات، وقد ظهر هذا جليا بالخطاب الذي نقله الإعلام بالصوت والصورة في احتلال الكونغرس، فمليشيات متطرفة تحمل خطابا عنصريا متشددا وتؤمن بتفوق اللون والعرق الأبيض على غيره، بل هي ربما مستعدة أن تعيد سيرة الهنود الحمر التي قامت الدولة كلها عليها، فتقتل على لون البشرة وتجمع الجماجم.
إن الدول إذا دبت فيها الطواعين واعترتها الأمراض المزمنة لا تتعافى منها بحال، ولكنها ربما تعيش زمنا مع مرضها، وإن أمريكا اليوم أضحت وقد ضُربت خلاياها وأصبحت كمنسأة سليمان تنتظر دابة من الأرض تجهز عليها وترثها، ولأن الدول الرأسمالية وهي تحمل عقيدة المبدأ فوق كونها تتجمع على محاربة الإسلام فلا يظن أن من مصلحتها أن تقع أمريكا أو تنتهي، ولذلك فإن مما نقطع به أن الدولة الوحيدة التي من مصلحتها أن ترفع أجهزة الإنعاش عن أمريكا وتخرجها من غرفة العناية المركزة هي دولة الخلافة القائمة قريباً بإذن الله وحينها فقط يدرك العالم كم كان مخدوعا بهذه الأنظمة الإجرامية ويدرك كذلك بأن الفكرة الرأسمالية لا تصلح لإدارة زريبة حيوانات أو غابة وحوش، فالخلافة وقوانينها هي وحدها القادرة على نشر الخير وتحقيق العدل بين الناس.
بقلم: الأستاذ خالد الأشقر (أبو المعتز بالله)
رأيك في الموضوع