برغم أن دولة الإسلام أسقطت منذ مائة عام على يد الغرب الكافر وعلى رأسه بريطانيا، وبرغم غياب الإسلام من مراكز الحكم والقرار في العالم، وخلو الساحة أمام الغرب وساسته ليتلاعبوا بمصائر الشعوب والأمم، إلا أن الغرب لم يتوقف عن حربه على الإسلام والمسلمين، ولم تتوقف سهامه الطائشة عن الطعن في عقيدة الأمة وشريعتها، ولم يشبع بعد من نهب خيرات وثروات الأمة، وما زال يحاول فرض هيمنته وسيطرته على مقدرات العالم، ما جعل الناس تعيش حالة من الضياع والتيه في ظل نظام رأسمالي جشع لا يعبأ سوى بملء جيوب أصحاب السلطة والنفوذ، بينما يعاني الناس من الفقر والذل والحاجة. وبرغم هذا الغياب القسري للإسلام عن الحكم، إلا أنه سيظل العقبة الكبرى التي تؤرق الغرب وتجعل هيمنته وسيطرته مهددة بالزوال، إذ تدفع العقيدة الإسلامية من يعتنقها لرفض كل أشكال الخنوع والذل، وتدفعه دفعا ليكون عزيزا قويا لا يرضى المهانة أو أن يكون إمعة. ومن هنا سيظل الإسلام هو المبدأ الوحيد الذي يخوض أصحابه صراعا حضاريا دائما ومستمرا مع الحضارة الغربية حتى يصرعها ليظهر الإسلام على الدين كله بما فيه الرأسمالية.
وللأسف الشديد رأينا الكثير من الحركات الإسلامية تنسحب من حلبة الصراع مع الغرب وحضارته وثقافته، بل أكثر من ذلك رأينا أن منها من يقف على أبواب الغرب يتسول الحلول لمشكلات الأمة، متناسيا أن الغرب هو العدو الذي تآمر على الأمة ودولتها حتى أسقطها، وما زال يتآمر على الأمة ويقوم بقتل وتشريد أبنائها، إما مباشرة أو من خلال دعم الديكتاتوريات في بلادنا. يطلبون من الغرب حلا لقضية فلسطين، ولقضايا المسلمين في بورما وكشمير وتركستان الشرقية، وفي مصر وسوريا واليمن وليبيا، مع علمهم أن الغرب هو الداء وأس البلاء، فما لهم كيف يحكمون؟!
في ظل تراجع هؤلاء وانسحابهم من ساحة المواجهة الفكرية والصراع الحضاري مع الغرب، أظهر حزب التحرير مجددا أنه هو الرائد الذي لا يكذب أهله، وأنه الصخرة التي ستتحطم عليها آمال الغرب في السيطرة وبسط النفوذ على الإسلام والمسلمين. فقد أصدر حزب التحرير كتابا جديدا مهما، بعنوان "نقض الفكر الغربي الرأسمالي"، يمتاز بالدقة والعمق والشمول كما عهدناه في كل إصداراته. ومع أن الكتاب لربما لم يأت بجديد على ثقافة الحزب، فالكثير من مباحثه قد وردت في ثنايا كتبه الأخرى؛ في كتاب "نظام الإسلام" في مبحث القيادة الفكرية، وفي مقدمة كتاب "النظام الاقتصادي" من نقد للنظام الاقتصادي الرأسمالي، وما ورد في كتيب "الديمقراطية نظام كفر"، من نقد للديمقراطية، وما ورد في كتاب "النظام الاجتماعي في الإسلام" من تبيان للنظرة الصحيحة للعلاقة بين الرجل والمرأة كما جاء بها الإسلام وفساد نظرة الغرب لتلك العلاقة، إلا أننا يمكننا أن نقول إن الكتاب قد جمع كل تلك الأزهار المتناثرة في حديقة واحدة، ليتمكن القارئ من الإلمام بالموضوع على صعيد واحد، يمكنه من إدراك تهافت الفكر الغربي في أصوله وتفريعاته، وفي عقيدته ونظامه، وعظمة الإسلام وتناقضه الواضح والصريح مع ذلك الفكر، حتى تدرك الأمة السبيل الصحيح لنهضتها، وأنه لا يكون إلا بالإسلام، فهو المبدأ الوحيد الصحيح.
وقد اهتم الكتاب بفضح العلمانية التي يتبجح برفع لوائها بعض المضبوعين في بلادنا بالغرب وبين أنها فكرة نشأت نتيجة تطور تاريخي معين، تولدت عنه تيارات فكرية معينة متناغمة مع فكرة إقصاء الدين من الحياة، وهي في مجملها كانت ردة فعل على حقب القهر والظلم التي سادت أوروبا في العصور الوسطى، وهو قهر خرجت من رحمه فكرة الحل الوسط التي هي جوهر العلمانية. وذلك النتاج التاريخي غريب عن الأمة الإسلامية وتاريخها، وبعيد كل البعد عن الإسلام بوصفه مبدأ شاملا، فالإسلام لم يكن يوما سلطة استبداد بالناس، ولم ينظر أبدا للعلم على أنه كفر وزندقة وارتداد يعاقب عليه بمحاكم التفتيش كما في الغرب في العصور الوسطى.
إن حزب التحرير هو بلا شك المدافع القوي في حرب الأفكار التي يقودها الغرب على أفكار الإسلام. وهو من يتصدى للعلمانيين ويفند أفكارهم ويفضح أحوالهم، فهؤلاء يريدون فصل الدين عن الدولة فلا يبقى منه سوى مراسم الأعياد والمناسبات الدينية، وهذا هو قمة النفاق بعينه، وإن كانت النصرانية تقنع بهذا وينخدع أتباعها به فلا يقنع الإسلام به، ولا ينخدع به أبناء الأمة الحقيقيون، فكما لا يجوز أن ينفصل الفرد المؤمن بالله ورسوله عن دينه فيكون في أفعاله محررا من الالتزام بالأحكام الشرعية، لا يجوز لدولة تدعي أنها دولة إسلامية فصل الدين عن نفسها، يفعل فيها الحاكم ونواب مجلس الأمة ما يشاؤون غير مقيدين بأمر الله ونهيه، فالإسلام مبدأ؛ أي عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، ولا يمكن فصله عن الحياة والدولة والسياسة، عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله r يقرأ "سورة براءة"، فلما قرأ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ﴾، قلت: يا رسول الله، أما إنهم لم يكونوا يصلون لهم! قال: «صَدَقْتَ، وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ».
من هنا لم ينشغل حزب التحرير فقط في كفاح سياسي مع حكام اليوم لإزالتهم وأنظمتهم وإقامة نظام الإسلام، بل هو يخوض في الآن نفسه صراعا فكريا مع الغرب ومبدئه الرأسمالي، ومع أذنابه من العلمانيين عملاء الغرب في بلادنا، وهو يعمل مع الأمة وبينها لينهي فترة الحكم الجبري الذي أقصي فيها الإسلام عن الحكم ونُقضت فيه عروة الحكم وفُصل الدين عن الحياة والدولة وهيمنت العلمانية على بلاد المسلمين هيمنة مطلقة، والتي أطلقت كلابها ينهشون في عقل الأمة ليرسخوا تلك الفكرة الغريبة عن عقيدة الأمة وتراثها وتاريخها الطويل. لقد أسقط في أيدي هؤلاء عندما رأوا مجهوداتهم التي بذلوها طوال أكثر من قرن من الزمان تذهب أدراج الرياح، فإذا بهم يتفاجأون بتصدي حزب التحرير وشبابه لأفكار الغرب وتفنيدها وبيان مدى تهافتها، وبمدى إصرار الأمة على إعادة الإسلام إلى الحكم ومزج المادة بالروح وسياسة الحياة بأحكام الله، وإعادة دولة الخلافة على منهاج النبوة من جديد.
وأخيرا؛ أنصح القارئ الكريم بقراءة الكتاب فهو ثروة فكرية لا نظير لها لن يجدها مركزة ومباشرة هكذا في أي مكان آخر، نسأل الله العلي العظيم أن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما، وأن يجعلنا من جنوده العاملين لنصرة دينه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
رأيك في الموضوع