لقد تضاعف حجم الديْن الخارجي بالنسبة للناتج المحلي العام في مصر، فقد بلغ حجم الديون المصرية الخارجية عام 2011م، 34.9 مليار دولار، وارتفع مع منتصف العام 2022 إلى 157.8 مليار دولار، وهو ما أدى إلى تدهور الجنيه وتفاقم معاناة الناس، في بلد يستورد غالبية احتياجاته الضرورية، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية إلى مستويات قياسية في ظل شح بالغ في العملة الصعبة. فالجنيه المصري قد فقد نحو ثلاثة أرباع قيمته أمام الدولار الأمريكي خلال العشر سنوات الأخيرة، وباتت خدمة الديْن العام للدولة تلتهم نصف الميزانية، إذ يتعين على مصر سداد ديون قصيرة الأجل بقيمة 911.5 مليون دولار خلال الشهر الجاري، و282.4 مليون في آب/أغسطس، و221.7 مليون في أيلول/سبتمبر، و83.6 مليون في تشرين الأول/أكتوبر، و105 ملايين في تشرين الثاني/نوفمبر، و2.25 مليار في كانون أول/ديسمبر. ونحو 11.3 مليار دولار ديون طويلة ومتوسطة الأجل حتى نهاية العام. لذلك تراجعت الثقة بالاقتصاد المصري، وسحب المستثمرون الأجانب 20 مليار دولار في التسعة أشهر الأولى من العام 2022.
في ظل هذا التدهور للاقتصاد المصري، وفي ظل حالة الغليان الشعبي نتيجة ارتفاع الأسعار وارتفاع نسبة البطالة، وفي ظل تفريغ الوسط السياسي من أي معارضة حقيقية، والتحضير لانتخابات رئاسية مبكرة؛ قد يبدو للرائي أن هناك خلافا مصريا أمريكيا، وأن أمريكا قد تخلت عن دعمها لنظام السيسي وأنها تفكر في استبداله، وأن هذا الخلاف قد ظهر في ملف "حقوق الإنسان والحريات"، وبخاصة عندما حجبت أمريكا لعامين متتاليين 130 مليون دولار من إجمالي 1.3 مليار دولار المخصصة لمصر سنويّاً، كما وظهر في توقف الدعم المالي الخليجي غير المشروط لمصر؛ لكن واقع الحال أن أمريكا لا تفعل ذلك لإسقاط النظام، بل لضبط سلوكه وبخاصة سلوك المؤسسة العسكرية والأمنية، ومن أجل الحفاظ على التوازن بين المعارضة العلمانية والنظام.
فتبعية النظام المصري لأمريكا مستمرة ومستقرة دون انقطاع، وآخرها زيارة وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، إلى القاهرة يوم الأربعاء 8 آذار/مارس ضمن جولة إقليمية شملت الأردن والعراق. وقبل ذلك بنحو شهر قام وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بزيارة مماثلة للسيسي. بالإضافة إلى زيارة مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز إلى القاهرة.
ومما لا شك فيه أن أمريكا تعتمد في مصر على الجيش منذ انقلاب عبد الناصر في الحفاظ على تبعية النظام لها وتحقيق مصالحها وسياساتها، ظهر ذلك سابقا في دعم مصر لثوار الجزائر ضد الوجود الفرنسي، وتغييرها لبعض الأنظمة العربية على يد عبد الناصر، وتمرير مخططاتها مثل حرب الخليج الأولى، ومحاصرة غزة واحتواء فصائلها المقاوِمة، والحفاظ على أمن كيان يهود، وطرق مواصلات الطاقة وحرية الملاحة البحرية، والحيلولة دون وصول الإسلام إلى الحكم على يد مبارك ومن بعده السيسي.
إلا أن هذا لا يعني أبدا أن أمريكا لا تقوم بالضغط على النظام وإن كان تابعا لها، سواء إبان حكم عبد الناصر أو السادات أو مبارك أو السيسي، بل هي تقوم بذلك باستمرار لإبقاء عملائها منقادين لأوامرها خاضعين لإرادتها. ومن أهم الملفات الضاغطة على نظام السيسي في الوقت الراهن هو ملف المساعدات الخليجية. فقد أحجمت دول الخليج عن دعم نظام السيسي ماليّاً، لا سيما وأن السيسي قد رهن اقتصاد البلاد للديون والاستثمارات الخارجية من خلال الخصخصة والمشاريع الهامشية الضخمة، وجعل مصادر دخل الدولة متوقفة على المساعدات الخارجية المقترنة بالإملاءات والشروط.
كما أن أمريكا تضغط على السيسي من خلال تظاهرها بأنها تدعم بعض القوى المنافسة له في الدولة العميقة، ومن ذلك ما كشفه تقرير أفريكا أنتلجنس بتاريخ 22/2/2023 حول لقاء سري جمع جمال مبارك بالسفير الأمريكي حينها جوناثان كوهين، والذي عُقد في آذار/مارس 2022، بشرم الشيخ. خاصة وأنه لم يعد هناك مانع قانوني يحرم نجل مبارك من الحصول على لقب مرشح رئاسي بعد تبرئة القضاء المصري له ولشقيقه ووالده وبقية أفراد عائلته من جميع القضايا المتبقية، والتي كان آخرها القضية المعروفة إعلامياً بـ"التلاعب في البورصة"، في شباط/فبراير 2020.
ومن الملاحظ أن أمريكا تستعمل صندوق النقد الدولي لتعميق اعتماد مصر عليها وتكبيلها بالديون، وللضغط على السيسي ومراكز القوة من أجل إدخال إصلاحات هيكلية تعزز استثمارات القطاع الخاص، وتقلص دور الدولة والجيش في توليد النشاط الاقتصادي. ولذلك ظل صندوق النقد الدولي يماطل في منح مصر قرضاً جديداً وقام برمي الكرة إلى دول الخليج. وهو الأمر الذي نحا بالسيسي إلى التعهد بتقليص دور الجيش في الاقتصاد بموجب خطة إنقاذ من صندوق النقد، الذي أعطى السيسي حزمة إنقاذ جديدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار لمواجهة أزمة نقص العملة الأجنبية وضعف الجنيه وارتفاع معدلات التضخم، التي نجمت عن دور الجيش المصري في الاقتصاد وبعثرته للمال العام في مشاريع استعراضية. كما سبق لصندوق النقد الدولي أن قدم لنظام السيسي نحو 12 مليار دولار بعد اتفاق الإصلاح الاقتصادي عام 2016، كما قدم له نحو خمسة مليارات دولار، خلال جائحة كورونا. وهذا ما يمكننا تسميته دعما متقطعا لنظام السيسي، فصندوق النقد الدولي يعمل على رهن مستقبل مصر بيد أمريكا ومراكز المال العالمية، فهو يضغط على النظام وفي الوقت نفسه يتوخى عدم سقوطه.
يتضح من كل ما تقدم أن نظام السيسي باق ولا توجد خصومة بينه وبين أمريكا، بل هو غارق في تنفيذ أجندتها التي تهدف إلى تهدئة الأجواء الإقليمية لصالح أمريكا وكيان يهود. ولهذا فليعلم كل من يراهن على إسقاط السيسي ونظامه من خلال الضغوط الخارجية وخاصة من أمريكا أن رهانه خاسر، وأن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على الأمة وعلى المخلصين في الجيش المصري الذين لا يرضون بما يقوم به السيسي من رهن للبلاد ومقدراتها لأمريكا والغرب أعداء الأمة.
رأيك في الموضوع