لقد ذكرنا في الحلقة السابقة أن الصراع الدائر اليوم بين التحالفات الدولية هو أشبه بالأجواء التي سادت قبيل الحرب العالمية الأولى، وأنه يتدحرج يوما بعد يوم، وربما انفجر مرة واحدة لتترتب عليه مخاطر عديدة تهدد البشرية. فما هي هذه المخاطر التي ربما تترتب على هذا الصراع المحتدم؟
هناك في الحقيقة مخاطر كثيرة سوف تترتب على هذا الصراع الدولي بكافة أشكاله السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومن هذه المخاطر:
1- تململ الدول الأوروبية للخروج من هذا الحلف؛ وذلك لترتب نفقات عالية على هذه الحرب، وترتب خسائر باهظة، بسبب انحسار الأسواق، وغلاء أسعار الطاقة. وكل يوم يمر على هذا الصراع يكلف الغرب ملايين الدولارات. وقد حدثت بعض التململات - كما ذكرنا - عند فرنسا وألمانيا، وصارت تنادي بإيجاد مخرج سياسي لهذا الصراع؛ فأثناء زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون للصين أيد المبادرة الصينية للحلول، وحذر من مغبة فتح جبهة تجاه الصين في تايوان، وتبعت ألمانيا في هذه النظرة. وفرنسا وألمانيا هما أكبر الدول الأوروبية وأكثرها فاعلية في الاتحاد الأوروبي. لذلك بادرت أمريكا برفض المبادرة من الفور، ونعتتها بالتحايل على احتلال أوكرانيا. وقد أثر طول أمد الحرب على الأحزاب السياسية في أوروبا من حيث صعود اليمين المتطرف في انتخابات أكثر من دولة، وأثر على الحزبين الكبيرين في أمريكا من حيث مسألة رفع سقف الدين العام الجاري الجدل حولها اليوم في المؤسسات السياسية. ومن المخاطر أيضا تهديد الاقتصاد في هذه الدول، أي التهديد بأزمات اقتصادية جديدة، خاصة أن الغرب لم يتعاف من الأزمة سنة 2008، فنفقات الحرب والخسائر المترتبة عليها قد تفاقم أزمة عالمية جديدة أشد تأثيرا منها.
2- مخاطر كبيرة على روسيا تهدد بانهيارها إذا اشتدت الأمور، ويكون تأثيرها أكبر إذا تخلت الصين عن روسيا، أو إذا فرض الغرب عليها عقوبات كما هو الحال على روسيا. فالعقوبات المفروضة على روسيا هي الأشد في التاريخ، وهي تزداد كل فترة من مرور الحرب. فهناك خسائر هائلة على اقتصاد روسيا، ولدت انكماشا في كل مفاصل الحياة فيها. وبالإضافة للحصار فهناك نفقات الحرب اليومية وهي بالملايين يوميا. وروسيا دولة ليست منتعشة اقتصاديا، ولا يمكنها الاستمرار إلى أمد طويل إلا بمساعدة الصين. وربما هذا ما يفسر صمود روسيا حتى الآن أمام هذا الحصار الدولي الشديد. والخطورة في الأمر هي أن اقتراب روسيا من حافة الهاوية سيجعلها تفكر في أساليب جديدة للنجاة، ومن ذلك على رأي المثل القائل (عليَّ وعلى أعدائي) وهذا ما حذر منه الساسة الروس مرات، من مثل الرئيس ووزير خارجيته ونائب رئيس الأمن القومي.
3- أما بالنسبة للصين فإنها قد حذرت على لسان أكثر من مسئول فيها بأنها سوف تلجأ إلى استخدام القوة في حال ازدياد التدخلات الأمريكية في مسألة تايوان؛ فقد صرح المتحدث باسم المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي الصيني الحاكم سون يلي، بأن: "بلاده لا تستبعد اللجوء إلى القوة لحل مشكلة تايوان، في حال قررت الأخيرة الانفصال، أو حدث تدخل أجنبي فيها". وقال في مؤتمر صحفي قبل انطلاق المؤتمر: "نحن لا نتعهّد بالتخلي عن اللجوء إلى القوة"، معقباً: "نحتفظ بإمكانية اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة ضد تدخل القوى الخارجية، وضد العدد الصغير للغاية من القوات الانفصالية المؤيدة لاستقلال تايوان وأنشطتها الانفصالية". وفي 7/4/2023 وجه وزير الخارجية الصيني رسالة تهديد لأمريكا؛ عبر تقديم دعم عسكري محتمل في المستقبل من بكين لروسيا في أوكرانيا، مؤكداً أن ذلك سيكون بمثابة رد على مبيعات الأسلحة الأمريكية لجزيرة تايوان. وسأل وزير الخارجية تشين جانغ خلال مؤتمر صحفي: "لماذا تطلب الولايات المتحدة من الصين عدم تزويد روسيا بالأسلحة بينما تواصل بيع الأسلحة إلى تايوان؟!" ويهدد هذا الصراع بفرض حصار على الصين لجرها وللإيقاع بها في صراع عسكري في تايوان تماما كما فعلت مع روسيا في أوكرانيا!!
4- التأثير الاقتصادي على العالم بشكل عام، وعلى الدول الفقيرة بشكل خاص. فأمريكا باتت تهتم بهذا الصراع، وتنفق عليه المليارات، وبالتالي تحاول تقليص المساعدات للخارج خاصة للدول الفقيرة. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الحرب المستعرة في أوكرانيا تهدد الأسواق العالمية بالركود، أو حتى الكساد لبعض الدول. والسبب هو ارتفاع التضخم وانحسار الأسواق وغلاء الأسعار خاصة المواد الغذائية ومنها الحبوب؛ بسبب الحصار على معابر أوكرانيا، وبسبب انحسار الزراعة فيها في مناطق واسعة.
إن الأجواء العالمية هي أجواء حرب، وأجواء عداوة بين الدول الكبرى، تماما كما كانت الأجواء مشحونة قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولا يوجد تراجع عند أمريكا تجاه هذه السياسة الشريرة لأنها تريد إبقاء التفرد الدولي، وهذا لا يتم ولا يستمر إلا عن طريق كبت الخصوم وتهديدهم بالصراعات المجاورة، أو بالضغوطات عليهم أو بأساليب أخرى، قد تلجأ فيها إلى استخدام القوة لتنفيذها؛ لأن سكوت أمريكا معناه صعود روسيا والصين، وربما لحقت بهما أوروبا؛ لأنها متأذية كثيرا من سياسات أمريكا تجاهها، فلا يوجد بصيص أمل لإنهاء هذا الصراع دبلوماسيا؛ لأن تفكير أمريكا هو تفكير سطوة وسيطرة وتحطيم الخصوم لبقاء هيمنتها على العالم، وسوى ذلك يعني صعود دول أخرى في وجهها، وبالتالي نزولها عن هذه المرتبة، ويؤدي هذا مستقبلا إلى تدخلات الحلف الثاني في مسائل حساسة مثل سطوة الدولار، ومثل إعادة تفعيل الأمم المتحدة بالشكل الصحيح، ومثل المشاركة المنصفة في إدارة العالم. وهذا يشكل ضربة شبه قاصمة لأمريكا؛ لأن سرّ بقائها اليوم هو بقاء هيمنتها.
وفي الختام نقول: إن هذا الصراع المحتدم اليوم والمتصاعد والمتسارع ليكشف طبيعة هذه الدول، وطبيعة الصراع العالمي، ويعيد للذهن ما فعلته الحربان العالميتان، وما نتج عنهما من حروب أخرى في كوريا وفيتنام وغيرهما، ويكشف طبيعة المبدأ السائد اليوم، ومدى سقمه وعجزه أمام حل المشاكل العالمية، وأمام نشر السلم العالمي، ونشر العدالة الاقتصادية في العالم. وإن أعمال هذه الدول وسياساتها لتعريها تماما عن أهليتها لرعاية البشرية، وتعري مبدأها الرأسمالي، وتقرع عقول البشرية في كل الأرض بأن العالم لا بد له من نظام جديد يغير وجه الأرض، وليس نظاما جديدا بتحالفات جديدة من جنس الدول القائمة ومبادئها الساقطة.
إن هذا الصراع ليذكر الأمة أولا بالأمانة العظيمة الملقاة على عاتقها في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾، وشهادتها على البشرية تكون بإنقاذها مما هي فيه، ولا ينقذها من هذه الكوارث إلا دين الله عز وجل الذي يجعل التنافس على الخير، بدل الصراع على الشر، ويجعل الناس متحابين، بدل التنافر والتباغض.
إننا أمام حقبة عالمية جديدة، بعد انكشاف عوار هذه المبادئ الهابطة، إننا أمام نظام عالمي جديد، ترتقي فيه أمة الإسلام لتأخذ أمانتها ورسالتها وتكون لها صفة القوامة والهداية والقيادة للناس جميعا، ﴿وَیَومَىِٕذٍ یَفرَحُ المُؤمِنُونَ * بِنَصرِ اللهِ یَنصُرُ مَن یَشَاءُ وَهُوَ العَزِیزُ الرَّحِیمُ * وَعدَ اللهِ لَا یُخلِفُاللهُ وَعدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا یَعْلَمُونَ﴾. نسأله تعالى أن يعجّل بزوال الشرور بأنواعها وزوال دولها وبارتقاء أمة الإسلام لمكانتها الصحيحة. اللهم آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رأيك في الموضوع