عقدت ورش بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية شمال إنفاذا للاتفاق الذي توصل إليه رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، ورئيس الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو في أديس أبابا، والذي نص على نقاش غير رسمي لقضية علاقة الدين بالدولة، ليتم استئناف المفاوضات الرسمية على ضوء نتائجها كشفت الحركة الشعبية أنها وافقت على تقرير المسهلين والخبراء بصيغته التي طرحت بفصل الدين عن الدولة، حرصاً منها على الحل السلمي بينما رفض التوصيات وفد الحكومة الانتقالية، وجاء في بيان الحركة الشعبية نقلاً عن صحيفة التحرير 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2020م "التقى ممثلو حكومة السُّودان الانتقالية، وممثلو الحركة الشعبية لتحرير السُّودان شمال ومساعدوهم من المسهِّلين والخبراء، ومجموعة السياسات والقوانين الدولية العامة والمركز الأفريقي للحلول البنَّاءَة للنزاعات واستشاريو شركاء التنمية وفريق الوساطة لعملية السلام في السُّودان في الفترة ما بين 29 تشرين الأول/أكتوبر إلى 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2020م.
تم في الورشة تقديم نماذج من خُبراء دوليين ومحليين حول تطبيقات مبدأ فصل الدين عن الدولة في دول ذات أغلبية مسلمة، وكان واضحاً بأن النموذج التركي هو الأقرب لواقع السودان. توصل الطرفان إلى صيغة للتقرير الختامي اقترحها المسهلون والخبراء، وتليت على المشاركين في الورشة.
في وقت سابق الحركة الشعبية شمال انسحبت من المفاوضات في جوبا، على خلفية رفضها التفاوض مع رئيس المجلس الانتقالي السوداني، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وطالبت بنقل ملف المفاوضات إلى مجلس الوزراء برئاسة عبد الله حمدوك الذي كان قد التقى مع الحلو في أديس أبابا، مطلع أيلول/سبتمبر الماضي، وأصدرا بياناً مشتركاً يمهد الطريق للوصول إلى اتفاق بخصوص الملفين الشائكين في المفاوضات، وهما حق "تقرير المصير"، و"علمانية الدولة" ووقع الطرفان على إعلان مبادئ بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا ينص على فصل الدين عن الدولة، وفي النصف الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر، التقى حميدتي والحلو بشكل مفاجئ في جوبا برعاية رئيس جنوب السودان سلفاكير، وأكدا على "كسر الجمود التفاوضي".
الناظر للأحداث يرى أن هؤلاء المتفاوضين يعتمدون سياسة اللعبة القذرة التي لا دين يحكمها ولا إيمان، والدليل على ذلك هو نص وثيقة السلام التي وقعت عليها الحكومة الانتقالية مع الحركات المسلحة والتي تفصل الدين عن الحياة بشكل سافر متحد لقيم أهل السودان. ثم تأتي الحكومة لتعترض على ورشة ناقشت نموذجاً لفصل الدين عن الحياة، فأي لعب بعقلية الناس تمارسه الحكومة؟!
نصت اتفاقية السلام الموقعة في جوبا بين الحكومة والحركات المسلحة على الآتي:
- السودان بلد متعدد الإثنيات والأعراق، متعدد الأديان والثقافات يجب الاعتراف الكامل بهذه الاختلافات واستيعابها.
- المساواة السياسية و(الاجتماعية) الكاملة لجميع شعوب السودان يجب أن تحمى بالقانون.
كما نصت الاتفاقية على وجوب إقامة دولة ديمقراطية في السودان وأن يقوم الدستور على مبدأ "فصل الدين عن الدولة"، في غياب هذا المبدأ يجب احترام حق تقرير المصير، وحرية المعتقد والعبادة والممارسة الدينية مكفولة بالكامل لجميع السودانيين، كما لا يجوز للدولة تعيين دين رسمي ولا يجوز التمييز بين الناس على أساس ديني.
إن ما يمارسه المفاوضون جميعهم في جوبا من شد وجذب لا علاقة له بإقرار الدين في الحكم، بل جميع المفاوضين يخضعون لأوامر الداعمين وليس متاحاً لهم خيار غير فصل الدين عن الحياة، وما يؤدونه مجرد تمثيليات يخدع بها البسطاء ليصطفوا مع أحد الطرفين الذين من مصلحتهم أن تبقى الأوضاع كما هي؛ جيش بميزانية ومخصصات وحركات مسلحة مدعومة من الخارج ترنو إلى السلطة والثروة، والضائع وسط الزحام هم الناس في وطن لم يجمع أبداً بين الدين والدولة منذ تكونه. إن هذه التراجيديات التي صممها الداعمون ليلعب فصولها القذرة أبناء جلدتنا الذين باعوا أنفسهم رخيصة لتنفيذ سياسات الأعداء لن تنطلي على الواعي.
أما تقديم المسهلين للنموذج التركي العلماني فهو استهتار بعقول المتفاوضين الضحلة التي تقبل بالمساس بالدين وحصره في الشعائر فقط، كما استخف الغرب بأردوغان وجعلوه ينفذ كل ما يرضيهم وهو يترنم بتلاوة القرآن ويجعله وراء ظهره في الحكم.
إن مصطلح فصل الدين عن الدولة ليس من الإسلام، فمنشؤه أوروبا، حيث اندلع صراع عنيف بين الكنيسة من جهة، وبين الشعب بقيادة مفكرين وفلاسفة من جهة أخرى، ونتج عنه في النهاية فصل للكنيسة التي تُمثّل الدين عن الحكم والسياسة، وهذا الأمر ممكن لأن النصرانية ليس لها نظام للحياة ولا تملك تشريعات سياسية، أما الإسلام الدين الخاتم فهو دين العبادة والحكم والسياسة، فلا يجوز قياس الدين الإسلامي على النصرانية، فالإسلام هو عقيدة وشريعة ونظام حياة، بينما النصرانية عقيدة بلا نظام ولا شريعة.
أما المجتهدون في الإسلام فهم ليسوا مشرعين، فلا يأتون بتشريعات من عندهم، كما هو حال رجال الدين النصارى، ومن الظلم والجهل القياس بين الفقهاء عندنا وبين رجال الدين النصارى. والدولة عندنا ليست دولة دينية بالمعنى الثيوقراطي، بل هي دولة بشرية تُحكم بشرع الله، وبهذا يسقط مفهوم فصل الدين عن الدولة ومنه النموذج التركي المقدم في الورشة، ويثْبُت أنّ الإسلام دين ومنه الدولة، بخلاف النصرانية التي لا مفهوم للدولة فيها، والتي تستند إلى قاعدة "أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، والمجتمعون في هذه الورشة يعلمون أن المسلمين ما زالوا يطالبون بتحكيم الشريعة الإسلامية في حياتهم، بالرغم من معاداة الأنظمة القائمة في بلادهم، وبالرغم من الحملات الغربية الاستعمارية المسعورة المستمرة ضد الإسلام، وبالتالي فما وقع فيه هؤلاء هو خطأ في القياس وخطأ في الاستدلال، فضلاً عن وجود الجهل أو التجاهل بطبيعة نظام الحكم في الإسلام.
إن الإسلام هو نظام شامل يتعلق بالحكم كما يتعلق بالعبادة، فهو لا يُفرّق بين الأفعال سواء أكانت تتعلق بالفرد أم بالدولة والمجتمع، فكل أفعال الإنسان يجب أنْ تكون مضبوطة بأحكام الشرع، فلا فرق بين العبادات والمعاملات، ولا بين الأحوال الشخصية والأحوال الدولية، فالإسلام يُعالج كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال، سواء أكانت تتعلق بالحكم أو الاقتصاد أو السياسة أو العبادات أو التعليم أو البينات أو العقوبات...الخ، ونصوصه جاءت شاملة عامة قابلة لأنْ تُستنبط منها أحكام شرعية لمعالجة كل حادثة، وكل فعل، وكل مشكلة، لذلك عُرّف الفقه في الإسلام بأنّه استنباط الأحكام العملية من النصوص التشريعية.
والإسلام دين سياسي عملي، والتشريع فيه هو سنّ القوانين المستمدة من نصوص القرآن والسنة وهو فرض ربط بالإيمان، قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ ولا يتأتى تطبيق أحكام الشرع الحنيف من دون وجود دولة، كما لا يمكن حكم الناس بالإسلام من دون سياسة، فالسياسة هي رعاية شؤون الناس، والدولة هي التي تسوس الناس أي ترعى شؤونهم بأحكام الإسلام، والرسول ﷺ كان رئيساً للدولة الإسلامية الأولى التي أقامها في المدينة المنورة، فقد وضع منذ وصوله إلى المدينة المنورة صحيفةً شاملة تُحدّد شكل الحكم في المدينة تحديداً سياسياً دقيقاً، وقد حكم ﷺ رعيته بالفعل بالإسلام، فطبّق عليهم الحدود، وجهز الجيوش، وأعلن الحروب، وعقد الهدن..الخ وفعل مثله الخلفاء فحكموا الناس وفتحوا البلدان ونشروا الإسلام في أرجاء المعمورة.
إن الحكم بالإسلام ورعاية شؤون الناس بأحكامه، مسألة محسومة ولا تحتاج تفاوضاً! فعلى الحاكم في الإسلام أن يحكم الناس بشرع الله، وأن يتحمّل مسؤولية رعاية شؤونهم بإحسان تطبيق أحكام الشرع عليهم، أما ساسة اليوم فقد ارتضوا الامتثال لغير الله.
لن يجدي نفعاً أي نموذج يقدمه هؤلاء (المسهلون)، والأمة تتطلع إلى النموذج الواجب الاتباع، وهو الدولة التي تستأنف الحياة الإسلامية، وتوحد المسلمين في كيان واحد يجمعهم، وتحرر فلسطين وسائر بلاد المسلمين المغتصبة، وتطهر بلاد المسلمين من كل نفوذ أجنبي، وتعيد للمسلمين مجدهم وعزتهم وكرامتهم، إنها دولة الخلافة التي بشرنا بها رسولنا الكريم ﷺ.
رأيك في الموضوع