بعد موجة الإساءة لرسول الله ﷺ، التي اجتاحت فرنسا، انبرى متصدرون على وسائل التواصل، وبعض الإعلاميين على القنوات التلفزيونية لتصدير هاشتاغات ووسوم تدعو لمقاطعة المنتجات الفرنسية للانتصار لرسول الله. ولاقت هذه الدعوة صدى كبيراً لدى عامة المسلمين وبالفعل تمت المقاطعة وكان لها أثرها.
بعد أن حققت الإساءة هذه النتائج من اجتماع الأمة على حب رسول الله، ونفض يدها من الحكام والهيئات الدولية جميعها، حيث لم تنتظر منهم مبادرة ولا أي رد فعل، بل أخذت زمام المبادرة وحاول المسلمون تقديم ما يستطيعونه بأنفسهم، فإن دعوات المقاطعة قد حققت للمسلمين نتائج خير، إذ أشعرتهم ولو بقليل من عزة فقدوها، وأعادت لهم الثقة بأنفسهم وأنهم بوحدتهم يستطيعون فعل ما يريدون.
ولكن، هذه النتائج الخيرة، تسلط الضوء على نقاط مهمة عدة لا ينبغي إهمالها حتى تكون المقاطعة فعلاً سلاحاً يؤتي أكله بما يراد له من الانتصار لرسول الله فخر الكائنات.
- لقد قامت الأمة من قبل بدعوات كثيرة وهبات قوية بفعل عاطفتها المشبوبة وحبها لدينها، ولكنها لم تلبث أن خمدت لافتقارها للتنظيم وسلامة الرؤية ووضوح الهدف، فكانت كعود كبريت اشتعل بفعل الاحتكاك وما لبث أن خمدت ناره بفعل الريح! لذلك لا بد أن تكون هبتنا للانتصار لنبي الأمة هبة منظمة ولها هدف واضح ورؤية واضحة المعالم لتحقيق هذا الهدف العظيم بما يليق بحضرة رسول الله ﷺ.
- ومن هنا لا بد من البحث حول كيفية الانتصار لرسول الله، وما الذي يمكن فعله حقاً في ظل الظروف العصيبة التي تحياها أمتنا من فقدانها السلطان. فهل حقاً الأمة لا تستطيع إلا أضعف الإيمان فنكتفي بمقاطعة المنتجات الفرنسية؟
- تصدر لدعوة المقاطعة مؤثرون ودعاة نحسبهم على إخلاص وخير، وكان الجامع للمتفاعلين مع هذه الدعوة هو حبهم لرسول الله ﷺ؛ فمنهم العلماء والدعاة الذين لهم جماهير عريضة وكلمتهم مسموعة ومتابعونهم يعدون بعشرات الآلاف، وقد كانوا يحرضون على المقاطعة ولسان حالهم: "لنقم بأقل القليل من أجل رسول الله". وإني أتساءل: هل حقاً لا تستطيع الملايين إلا المقاطعة الاقتصادية؟ وقد كانت هناك دعوات من علماء لمتابعيهم بضرورة دعوة المسلمين المشهورين في كل مجال للمقاطعة ودعوة متابعيهم أيضاً للمقاطعة، إذ إن هؤلاء المشهورين حسب الداعية فلان لهم جمهور عريض وسيؤثرون بكل تأكيد على اقتصاد فرنسا بدعوتهم الواضحة للمقاطعة، حيث كانت الدعوات موجهة للاعبي كرة مشهورين وملاكمين و"نجوم" يعيشون في الغرب من المسلمين.
- فهل نسي هؤلاء الدعاة أنهم يملكون تأثيراً موازياً على الناس، ويمكنهم أن يقفوا موقفاً عظيماً كالذي يطلبونه من لاعب كرة قدم أو فنان مسلم؟! لماذا لا يطلبون هم من منابرهم التي ائتمنهم الله عليها وقلدهم بها وسام الرفعة: ورثة الأنبياء، لماذا لا يطلبون من الجيوش والتي تملك زمام القوة وبيدها التحرك الفعلي على الأرض الذي ينسي فرنسا وساوس الشيطان التي سولت لها أن تتجرأ على مقام رسولنا عليه الصلاة والسلام؟!
- إن رسول الله ﷺ قد قال: «وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلَا دِرْهَماً، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». وميراث النبوة العظيم لا بد لمن حمله أن يعلم أن هذا المقام مقام تكليف كبير بقدر عظم ما يحمل وبقدر عظم مقام النبوة. فلماذا يتم عند حملة هذا الميراث تجاهل الحل الحقيقي والجذري لهذه الإساءة، والتي هي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ما دام سلطان الأمة مفقوداً؟!
- إن عظمة سيدنا محمد ومكانته لدى أمته لا تقتصر على كونه على خلق عظيم أو في كونه زوجاً رائعاً أو نموذجاً مثالياً للمعلم المربي، بل إن عظمته وميراثه يتمثل في رسالته التي بعث بها رحمة للعالمين. فمكانة محمد ﷺ هي في ميراثه الذي تركه لنا: الإسلام.
- وإن أعظم إساءة وُجهت للأمة وسكتت عنها هي تنحية ميراث رسول الله عن الواقع، وحبسه في بيوت العزاء ورفوف المكتبات. فرسول الله لا يرضى بأن تميتوا دينه الذي بُعث به ولأجل إيصاله لنا ضحى - فدته نفسي - بكل حياته وضحى معه خير القرون صحابته رضي الله عنهم أجمعين.
- فالأصل أن تهب الأمة لإحياء ميراث رسولها، وليس من عمل أعظم من إحياء دولته التي بناها عليه الصلاة والسلام في المدينة فكانت لهذا الدين درعه وللقرآن سلطانه، ثم هدمها الغرب في أواخر القرن الماضي. وهذا يعلمه العلماء جيداً، فلماذا لا يكرسون منابرهم للدعوة لهذا الفرض العظيم؟! ولماذا لا تتم الدعوة لمقاطعة بضاعة الغرب كلها وعلى رأسها النظام الرأسمالي وطراز العيش الغربي في الحياة الذي يعشش في بلادنا؟!
- لماذا لا تتم دعوة الجيوش، لمقاطعة البضائع الغربية وعلى رأسها أنظمة الحكم التي يعلم الجميع أنها أس الداء والبلاء، وأن ماكرون ما تجرأ على المسلمين لولا يقينه من ولاء هذه الأنظمة لعدو الأمة؟!
- في الدعوات التي وجهها أحد الدعاة لمتابعيه لحث لاعب كرة معروف للمقاطعة، كانت هناك تعليقات عن سقطات لهذا اللاعب وأنه لن ينصر رسول الله فدعك منها أيها الشيخ، فما كان من الشيخ إلا أن قال: نحن ندعوه لنصرة رسول الله كما ندعو أي مسلم، ويجب كسب هؤلاء المسلمين المعروفين من "المؤثرين"! فلماذا لا تتم دعوة أبناء الجيوش المسلمة لهذا الفرض، من المنطق نفسه؟!
وفي الختام أقول:
أنتم أيها العلماء على ثغر عظيم، هذه فرصة بل كنز عظيم لا يسنح مرة أخرى. إن الأمة قد اجتمعت على حب نبيها وعازمة أكثر من أي وقت مضى على نصرة دين الله، فلماذا تحصرونها بحدود معينة وتضعون حداً لقدراتها وطموحها في التحرر والنهضة؟! لماذا تكتفون بنصرة رسول الله بالأعمال الفردية ولا يتم التطلع لما هو أعلى من رد حقيقي يليق برسول الله ﷺ؟! إن دعوتكم الأمة للمقاطعة الاقتصادية تعني أنكم تبرهنون على وعي الشعوب، وهذه نقطة مهمة لكنكم لا تعطونها حقها!
فإن كان الرأي العام جوهرياً كما يظهر في الصراع بين الإسلام والغرب، فلماذا لا يكون لكم سهم في صناعة الرأي العام الواعي، بحيث ترفعون سقف العمل لدى الجماهير؟ فبدل الاقتصار على الدعوة لمقاطعة المنتجات والبضائع أضيفوا لها مقاطعة أنظمة الحكم ونظم العيش التي لا ترضي الله، ولتكن هبة واحدة تجاه تحكيم الشريعة وإقامة دولة القرآن، دعوة تكونون في طليعتها وتكون الأمة وجيوشها هم عمادها إذ تلتحم الفكرة الظاهرة بالقوة الناصرة.
إننا نهيب بكم أن تكونوا ورثة النبوة بحق، ويكون لكم سهم في استرجاع أمتنا لسلطانها وانتصارها الحقيقي لرسول الله ﷺ، فيكون لقاؤكم برسول الله يوم القيامة لقاء سارّاً، وتكون شهادة الإسلام لكم بأنكم نصرتموه، ونربأ بكم أن تكونوا ممن يكتمون علم الله فيكون حجة عليكم أمام الله سبحانه، ولا تكونوا ممن اصطفاهم الله لحمل أمانته فما رعوها حق رعايتها!
"فإذا ضربتم فأوجعوا فإن العاقبة واحدة".
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
بقلم: الأستاذة بيان جمال
عضو القسم النسائي في المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع