إن المؤتمر الاقتصادي الذي عقد خلال الفترة (26-28 أيلول/سبتمبر 2020م)، والذي قُصِد منه، حسب تصريح وزيرة المالية هبة محمد علي إيجاد حشد شعبي لسياسات الحكومة الانتقالية المالية، هو مؤتمر فاشل قولاً واحداً؛ لأن نجاح أي عمل إنما يقاس بمدى تحقيق الهدف الذي قام لأجله، وهنا نجد أن الهدف لم يتحقق بحسب سياسات الدولة المنتهجة الآن. ولكي نوضح الأمر أكثر، ما هي مشكلة الشعب وطموحاته منذ أن ثار على النظام البائد، وما هي آماله وطموحاته من الحكومة الانتقالية التي يعتبرها ثمرة لتضحياته ومجاهداته التي بذل فيها الغالي والنفيس؟
إن مشكلة أهل السودان نلخصها في النقاط التالية:
- التضخم الاقتصادي الذي بلغ 166.7%.
- أزمة حادة في الخبز الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
- أزمة في الوقود حيث تمتد الصفوف إلى كيلومترات عديدة.
- ارتفاع جنوني في الأسعار لا يتناسب مطلقاً مع دخول الأفراد.
- أزمة غاز الطبخ، وأزمة في الماء والكهرباء...
وإضافة لكل ذلك انسداد في الأفق، وحالة من الإحباط واليأس، وظلام دامس في آخر النفق، ومستقبل مخيف ومجهول، وحالة من الرعب تنتاب الناس مما هو آت، هذه هي مشكلة أهل السودان.
أما سياسات الحكومة الانتقالية التي وضعتها للخروج من هذه الأزمات الخانقة فتتمثل في:
- التحرر التدريجي لسعر الصرف وتعويم العملة.
- طباعة النقود من غير غطاء لمقابلة النقص في الميزانية.
- الإلغاء التدريجي لدعم المحروقات والسلع الأساسية.
- فتح البلاد للاستثمار الأجنبي.
- توسيع القاعدة الضريبية.
وبإنعام النظر في هذه السياسات نجدها في وادٍ، ومشكلة أهل السودان في وادٍ آخر، حيث نرى أن هذه السياسات ما هي إلا نسخة لبيان البنك وصندوق النقد الدوليين الصادر في 26/09/2020، فهؤلاء الحكام الذين يديرون الحكومة الانتقالية منبهرون، بل مضبوعون بالثقافة الغربية إلى حد يقارب الاعتقاد بأن لا مخرج إلا باتباع سياسات صندوق النقد الدولي، ولا يفكرون خارج هذا الصندوق، بل يصرون على تنفيذ أجندته حتى أصبح عامة الناس يصفونهم بالعمالة وعدم المصداقية في رعاية مصالح البلاد. فبالله عليكم كيف يصطف الشعب خلف هذه السياسات وهي لا تمس قضاياه لا من قريب ولا من بعيد؟! هذه السياسات يعتبرها الشعب سنداناً أو مشنقة تحضّر للإجهاز عليه، وذلك واضح في مقاطعة وزيرة المالية والهتاف ضدها عندما تحدثت في المؤتمر عن رفع الدعم عن المحروقات...
لهذا كله قلنا إن المؤتمر كان فاشلاً لعدم تحقيق الهدف، وأن القصد منه هو وجود حشد شعبي لسياسات الحكومة.
فما هي رؤية الإسلام لهذه المخرجات، وما هي السياسة الشرعية لحل مشكلة البلاد الاقتصادية؟
إن هذه المخرجات من ناحية شرعية بصورة عامة هي باطلة شرعاً، وذلك لأن الأساس الذي بنيت عليه هو النظام الرأسمالي الذي يقوم على عقيدة تناقض عقيدة الإسلام، فالنظام الرأسمالي يقوم على عقيدة فصل الدين عن الحياة، ومعالجاته تستمد من العقل البشري القاصر والعاجز والمتناقض في الحكم على الأشياء.
أما تفصيل ذلك فنذكر بعض ما ورد من مخرجات المؤتمر على سبيل المثال كما يلي:
- تخفيض استيراد السلع الكمالية.
- ترشيد سياسة الدولة تجاه المحروقات بهدف صيانة البيئة، وتخفيف العبء على الموازنة والميزان التجاري، دون خلق اختناقات في المواصلات والنقل والإنتاج.
- الدعم المباشر للمنتجين.
- زيادة الجهد الضريبي من 5% إلى 20%.
- مكافحة الفقر والاهتمام بالاقتصاد الريفي.
- إعداد برنامج تنموي قومي يحقق طموحات وتطلعات الشعب السوداني.
إن هذه المخرجات هي عبارة عن خطوط عريضة برز من خلالها الخلط بين علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي؛ فعلم الاقتصاد يهتم بالإنتاج وزيادة الثروة، وهو عبارة عن أساليب ووسائل، وخبرات متراكمة من الأجيال السابقة، ولا حرج أن تكون عامة، وتؤخذ من أية جهة ما دامت صالحة للعمل المحدد. أما النظام الاقتصادي فهو نظم وأحكام وقوانين تتعلق بحيازة الثروة وملكيتها وتبادلها وإنفاقها، وتوزيعها، وهذا لا يصح إلا أن يؤخذ من الإسلام، ولا تستطيع أية جهة رأسمالية كانت أو شيوعية أن تضع نظماً اقتصادية مبرأة من العيوب، وحده الإسلام العظيم من يستطيع ذلك.
إذن ما هي سياسة الإسلام الاقتصادية لحل مثل هذه الأزمات؟
إن سياسة الاقتصاد في الإسلام هي الهدف الذي ترمي إليه الأحكام التي تعالج تدبير أمور الإنسان، وهي ضمان تحقيق الإشباع لجميع الحاجات الأساسية لكل فرد إشباعاً كلياً، وتمكينه من إشباع الحاجات الكمالية بقدر ما يستطيع، باعتباره يعيش في مجتمع معين له طراز خاص من العيش، فالإسلام ينظر لكل فرد بعينه لا إلى مجموع الأفراد الذين يعيشون في البلاد، ففي الوقت الذي يشرع أحكام الاقتصاد للإنسان يجعل التشريع موجهاً للفرد، وفي الوقت الذي يعمل لضمان حق العيش والتمكين من الرفاهية يجعل ذلك يتحقق في مجتمع معين له طراز خاص من العيش. وبذلك يفرض الإسلام العمل على الفرد لإشباع حاجاته، فإذا عجز انتقل الأمر إلى الدولة، «مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلّاً فَإِلَيْنَا»، فالإسلام حث الأفراد على الكسب، وأمرهم بالانتفاع بالثروة لتحقيق التقدم الاقتصادي في البلاد، وإشباع الحاجات الأساسية والكمالية.
والإسلام حين شرع الأحكام المتعلقة بكيفية حيازة الثروة راعى عدم تعقيد الكيفية، فجعلها بسيطة كل البساطة، فقد حدد أسباب التملك، وحدد العقود التي يجري بها تبادل الملكية، وأطلق للإنسان في أن يبدع في علم الاقتصاد المتمثل في الأساليب والوسائل التي يكسب بها حين لم يتدخل في إنتاج الثروة، وقد جعل الأسباب والعقود خطوطاً عريضة تدخل تحتها مسائل متعددة تقاس عليها أحكام متعددة.
وإذا نظرنا إلى سياسة الإسلام نجده حرّم معاملات رأى أنها تضر بالمجتمع، مثل الربا والضرائب والجمارك وطباعة النقود من غير غطاء من الذهب أو الفضة، وحرّم رهن البلاد للأجنبي وغيرها من الأحكام والمعالجات. لذلك نقول للحكومة إن كانت جادة فلتقم بالآتي:
- الانعتاق من سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين.
- إيقاف كافة الضرائب المباشرة وغير المباشرة والجمارك، لأنها السبب الأساس في غلاء الأسعار.
- تمكين الناس من الحصول على الوقود والكهرباء والماء باعتبارها ملكية عامة.
- توفير الدقيق عن طريق إنهاء الاحتكار، وفتح باب الاستيراد على أنها معالجة عاجلة، وزراعة القمح على أنها معالجة مستقبلية.
كل هذا الذي ذكرناه وغيره هي أحكام شرعية واجبة التنفيذ من هؤلاء الحكام، وعلى رأسها نفض أيديهم من النظام الرأسمالي كله، والسعي لتطبيق جميع أحكام الإسلام، وإقامة نظام الإسلام العظيم، المتمثل في الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، لأنها الوحيدة القادرة على وضع هذه المعالجات موضع التطبيق، لرفع المعاناة عن الناس، ولإرضاء الله تعالى. نسأل الله أن يكون ذلك قريباً.
بقلم: الأستاذ عوض ناجي – الخرطوم
رأيك في الموضوع