إن الذي يصوغ العلاقات بين الدول، هو المصالح التي تحددها الدولة؛ على ضوء ما تريد تحقيقه، أو تريد حمايته من أهداف؛ تحملها للحلبة الدولية بما يسمى بالسياسة الخارجية. وهذه المصالح تكون مبدئية؛ كنشر رسالة الأمة وقيمها، وقد تكون مادية كالسيطرة على مناطق استراتيجية، أو مناطق غنية بالمواد الخام، أو فتح أسوق تجارية وغيرها.
ولكننا إذا أردنا أن نطبق هذا القول على الدويلات القائمة في البلاد الإسلامية؛ والسودان جزء منها نجد أن هذا الأمر لا ينطبق عليها، بل هي دويلات أنشأها المستعمر، وحكمها بنفسه أو بالوكالة بعد هدمه الدولة العظمى التي كانت تجمع هذه الدويلات؛ دولة الخلافة، ثم صنع رجالاً سلمهم السلطة شكلياً، وكانت السلطة الفعلية بيده، عبر سفاراته في هذه الدويلات، فظل منذ ما يقارب القرن من الزمان حكام هذه الدويلات مجرد عملاء؛ ينفذون سياسات أسيادهم على شعوبهم، وفي أغلب الأحيان تنفذ بالقهر والجبروت.
والسودان باعتباره مستعمرة بريطانية، كان الوسط السياسي كله تقريباً تابعاً لبريطانيا، وعندما دخلت أمريكا في حلبة الصراع الدولي لم يكن لها رجال في السودان ولذلك اعتمدت على الجيش فصنعت في داخله رجالاً لها يأخذون السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، كان آخر هذه الانقلابات انقلاب عمر البشير عام 1989م، واستمر حكم البشير عميلاً أمريكياً أكثر من ثلاثين عاماً، أخلص فيها لأمريكا أيما إخلاص، ونفذ لها كل مشاريعها في السودان، وكان من أخطر ما فعله نظام البشير لأمريكا هو خضوعه بالكامل في جريمة فصل جنوب السودان عن شماله، وتهيئة بقية أقاليم السودان للتمزيق والتفتيت عبر اتفاقية الشؤم نيفاشا، وكل ذلك وغيره لم يشفع له عند أمريكا عندما ثارت جموع الشعب، وبخاصة الشباب ضد سياسات النظام الاقتصادية؛ التي أفقرت الناس رغم غنى السودان بموارده الظاهرة والباطنة، فقد تخلت عنه، لأنها لا تعتمد على أشخاص بقدر اعتمادها على المؤسسة العسكرية، وهو ما حدث عندما استلم السلطة مجموعة من الجنرالات، الذين أصبحوا فيما بعد يسمون بالمجلس العسكري، ولأن بريطانيا تعلم أن العسكر هم رجال أمريكا، فأوعزت إلى قوى الحرية والتغيير أن تخطف الثورة من الذين ثاروا على الظلم والجوع، والحرمان والفساد، وتسلقت هذه القوة على ظهور الثائرين ولم تضع أي حل جذري لمعالجة الأوضاع المزرية التي خلفها النظام البائد، بل انخرطت في قسمة السلطة مع العسكر، وأوهمت الثوار بأنها بذلك قد أتت لهم بالمدنية؛ أي بالحكومة المدنية التي ينادون بها؛ عندما أتت بحمدوك رئيساً للوزراء، وجعلت له صلاحيات تنفيذية مؤثرة. إلا أن القوة الحقيقية ظلت في سلطة الجيش الموالي لأمريكا بوجود (5 منهم في المجلس السيادي، واثنين في مجلس الوزراء؛ وزيري الداخلية والدفاع).
هكذا نجد أن الحكم في السودان وفق الوثيقة الدستورية التي صاغها عملاء أمريكا في الاتحاد الأفريقي نجد أن هذا الحكم صار شكلاً بين فريقين متشاكسين، بصلاحيات متفاوتة، وبولاءات خارجية متصارعة، مما انعكس على وضع البلاد أمنياً واقتصادياً، لأن كلاً من الفريقين يتربص بالآخر؛ فها هو حمدوك يتهم الجيش بأنه يمتلك أكثر من 80% من المال العام، ويعني بذلك شركات القوات المسلحة، ثم يخرج البرهان ليصف حكومة حمدوك بالفشل وأنها تريد تعليق فشلها على شماعة الجيش.
فمن الطبيعي أن أمريكا وبريطانيا لن تتعايشا بهدوء في السودان فمصالحهما مختلفة، وأدواتهما المحلية تبع لهما، ولذلك كل طرف يعمل الآن لإجهاض تحركات الطرف الآخر، فأمريكا حتى تحكم قبضتها على السودان تعمل من أجل إفشال الحكومة المدنية؛ حكومة حمدوك عبر الضغط الاقتصادي، باعتباره هو المحرك للشارع، حيث إن الأسباب الرئيسية لتحرك الشارع ضد البشير كانت سوء الوضع الاقتصادي، وحكومة حمدوك كانت قد وعدت الناس بتحسين الوضع الاقتصادي، ولكنها فشلت نتيجة للضغط الأمريكي الذي يفرضه على الأوروبيين، وبخاصة بريطانيا في عدم تقديم أي مساعدات مالية ذات قيمة إلا بعد رفع السودان من قائمة الدول الراعية (للإرهاب)، وهي أي أمريكا لن ترفع اسم السودان إلا إذا ضمنت أن السلطة صارت بالكامل في يد رجالها، لا ينازعهم فيها أحد، فحكومة حمدوك أصبحت الآن مخنوقة من أمريكا، وحتى يكون الخناق أشد طلبت أمريكا مؤخراً من حكومة حمدوك عبر وزير خارجيتها بومبيو، الذي زار السودان قادماً من كيان يهود مباشرة، في إشارة تؤكد خنوع الحكومة للابتزاز الأمريكي، طلبت من حكومة حمدوك التطبيع مع كيان يهود لوضعها في موقف حرج، فكان أن اعتذر حمدوك بأن الحكومة الانتقالية لا تملك تفويضاً للقيام بمثل هذا العمل، هذا وكانت الإدارة الأمريكية تمني حمدوك برفع اسم السودان من قائمتها السوداء إذا دفع السودان تعويضات لضحايا المدمرة كول، فأذعن حمدوك ودفع، ثم خرجوا له بأخرى وقالوا لا بد أن تدفعوا لضحايا تفجير السفارتين الأمريكيتين بنيروبي ودار السلام، وقبل أيام قال أعضاء نافذون في مجلسي الشيوخ والنواب؛ إن إدارة ترامب توصلت إلى اتفاق مبدئي مع الحكومة السودانية بشأن تعويضات تفجيرات نيروبي ودار السلام. ونقلت صحيفة فورن بوليسي أن الاتفاق يقضي بدفع السودان 335 مليون دولار كخطوة أخيرة لشطب اسمه من قائمة (الإرهاب)، وهكذا هي أمريكا لا تعطي شيئاً وإنما تأخذ فقط، وبخاصة إذا وجدت خضوعاً من الطرف الآخر، فقد فعلت الشيء نفسه مع حكومة البشير، ومنّتهم برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية (للإرهاب) إذا عملوا على فصل جنوب السودان، وفعلوا ولم تعطهم شيئاً.
وما يؤكد هذا ما قاله قطبي المهدي؛ القيادي بالمؤتمر الوطني المحلول، ورئيس جهاز المخابرات السوداني في بدايات نظام الإنقاذ، حيث ذكر في صحيفة الشرق الأوسط، عندما سألته عن منهج التفاوض الذي تم في نيفاشا، وأفضى إلى انفصال الجنوب قال: "... واتبعت سياسة العصا والجزرة وتمت قيادة المفاوض السوداني إلى مسار غير صحيح، ثم نجحت العصا ولم نجد الجزرة المتمثلة في السلام وأولوية الوحدة والمساعدات وتطبيع العلاقات مع أمريكا، لقد استغفل الأمريكان السودانيين".
هذه هي سياسة أمريكا في السودان، ولن تتخلى عنها؛ فهي سياسة السادة والعبيد، فستظل تعد وتمني حكام السودان، ولن يجدوا منها شيئاً، فهي معتادة على الأخذ لا العطاء، مصداقاً لقول الله عز وجل: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً﴾.
نسأل الله أن يرفع عن بلادنا وبلاد المسلمين أجمعين حكم الرويبضات؛ عملاء الغرب الكافر، وأن يمن علينا بخلافة راشدة على منهاج النبوة؛ تقطع دابر الكافرين، وتردهم عن بلادنا خائبين، وتغزوهم في عقر دارهم؛ حاملة إليهم النور والهدى ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾.
الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع