في كلمته عن حالة الاتحاد في كانون الثاني 2015 أمام الكونغرس الأمريكي، حذر أوباما من أن الصين تسعى لصياغة القوانين التي ستحكم النمو والتطور الاقتصادي في أسرع بقاع الدنيا تطورا. وعقب بقوله "نحن الذين يجب أن نصوغ هذه القوانين". ما يعني أن أمريكا تخشى من سيطرة الصين على حركة الاقتصاد والمال خاصة في شرق وجنوب آسيا. ويأتي إعلان الصين عن إقامة بنك آسيا للاستثمار البنيوي Asian Infrastructure Investment Bank (AIIB) ليؤكد مخاوف أمريكا حيال عزم الصين على قيادة المسرح الاقتصادي والمالي في المنطقة. وكانت الصين قد أعلنت عن قيام بنك (AIIB) مطلع هذا العام، وقد أعطت الدولَ في آسيا وأوروبا فرصة المشاركة كأعضاء مؤسسين حتى نهاية آذار/مارس 2015، وأن البنك سيبدأ نشاطاته البنكية قبل نهاية عام 2015. وقد سارعت بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وتبعتها سويسرا ولوكسومبرغ لتصبح من الأعضاء المؤسسين في البنك، وفي المجال الآسيوي وافقتعلى الانضمام كل من تايلاند، وسنغافورة ونيوزلندا بينما أحجمت اليابان وكوريا وأستراليا تحت ضغط شديد من أمريكا. وإن كان من المتوقع أن تعود هذه الدول للانضمام للبنك.
وما يقلق أمريكا أن هذا البنك الذي تتزعمه الصين قد يؤثر على مكانة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذَيْن يعملان تحت قيادة أمريكا مباشرة. وكانت أمريكا قد عملت على إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد عام 1944 في اتفاقية بريتون وودز المشهورة، وقد استغلت أمريكا هاتين الأداتين أبشع استغلال منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويكفي للتدليل على بشاعة الدور الاستعماري لهذين البنكين أن أول دولة تلقت قرضا من البنك بعد الحرب العالمية الثانية كانت فرنسا، بقيمة 250 مليون دولار شريطة استبعاد الشيوعيين من حكومتها!! وأصبحت أشهر مقولة في عالم الاقتصاد أنه "ما دخل البنك الدولي بلدا إلا تركه قاعا صفصفا غارقاً بالفقر ومثقلا بالديون".
ولما حاولت الصين مرارا وتكرارا أن تعدل من سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين دون جدوى، ولما كان بنك آسيا للتنمية ومقره مانيلا يخضع لإدارة يابانية محضة، بالتالي وجدت الصين نفسها عاجزة عن توظيف ثروتها النقدية الهائلة، فقد عمدت إلى إنشاء بنك دولي تحت إدارتها وإشرافها، وفتحت المجال لدول كبرى لتساهم في البنك ليكون لها ذراعا مهما في المجال الاقتصادي، وقد يصبح ذا بُعد سياسي فيما بعد. ومن المتوقع أن يبدأ البنك برأسمال حوالي 50 مليار دولار، ويباشر بإعطاء القروض المتعلقة في البنى التحتية لدول آسيا. وجدير بالذكر أن البنك الدولي قد توقّف منذ ثمانينات القرن الماضي عن إعطاء القروض المتعلقة في البنية التحتية وتوجه إلى قروض الخدمات. وتأمل الصين أن تبني خطوط نقل سريعة تمكنها من التواصل السريع مع دول الجوار في آسيا الوسطى والهند وباكستان. وكانت دراسة أجراها بنك آسيا للتنمية قد بينت أن منطقة آسيا التي تسعى الصين لجعلها مجالا حيويا لبنكها الجديد سوف تحتاج إلى 8 ترليون دولار ما بين عامي 2010-2020 في تنمية قطاع الكهرباء والطرق والاتصالات.
ومن هنا يتضح سبب قلق أمريكا من ظهور هذا البنك العملاق والذي قد يضعف من دور بنكيها المدلَّلين لأكثر من 60 عاما. حيث عبر وزير المالية الأمريكي جاكوب ليو بقوله "إن الحكومة الأمريكية يراودها الشك بقدرة البنك الذي تقوده الصين على الالتزام بالمعايير التي طورها صندوق النقد والبنك الدوليين، وما إذا كان هذا البنك سيحفظ حقوق العمال ويحارب الفساد". وكأن البنك الدولي كان دائما الأب الرحيم للفقراء والمساكين في العالم. ما أبشع الظلم والتجبر حين يقترن بالكذب والافتراء!!
أما الدول الأوروبية فهي ترى أن الصين بما تملكه من ثروات هائلة توفر لها فرصة للتحرك بعيدا عن سيطرة وتدخل أمريكا الاستعماري من خلال صلاحياتها في البنك وصندوق النقد الدوليين، أهم أداتين استعماريتين بيد أمريكا.
وفي المقابل فقد حاول وزير المالية الصيني طمأنة الأمريكان بأن بنك الصين هذا لن يؤثر سلبا على صندوق النقد والبنك الدوليين ولن يكون منافسا لهما، وضرب مثالا على ذلك بنك تنمية آسيا وبنك التطوير الأوروبي وما ذلك إلا تهكم وتضليل!! ذلك أن البنكين المذكورين لم يخرجا عن سيطرة ومراقبة أمريكا، فالأول تقوده اليابان الحليف الأكبر لأمريكا، والثاني تقوده دول حليفة لأمريكا.
لذلك فمن المتوقع أن تشهد الساحة الدولية مناورات ساخنة تقودها أمريكا للتأثير على مستقبل بنك الصين والحد من نفوذه، هذا إذا عجزت عن إفشاله بالكلية. وأمريكا لا تستعمل قوتها الاقتصادية فقط في مثل هذه الأعمال، بل تستعمل كل ما لديها من قوى دبلوماسية وسياسية وعسكرية. ولا نستبعد أن تحرك أمريكا مسألة كوريا مرة أخرى من باب التذكير بما لديها من وسائل وإمكانيات.
رأيك في الموضوع