لقد تنوعت وسائل وأساليب دول الكفر في محاربة المسلمين بعد أن قضت على الكيان السياسي لهم "دولة الخلافة" فقتلت تلك الأم الرؤوم، وفجعت أبناءها بها، حيث فقدوا الحاضنة السياسية لهم، وحتى لا يتمكن المسلمون من إعادة سلطان الإسلام، وحتى لا تعود دولته كانت حاجة الكفر ماسة لتضليل المسلمين؛ كي لا يسلكوا الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى التغيير. فسلك الغرب وسائل وأساليب شتى للحيلولة دون عودة الإسلام، وكان أسلوب التضليل السياسي هو أخطر تلك الوسائل.
إن واقع التضليل السياسي هو إخفاء للحقيقة السياسية، وطمسها والتعمية على الطرف المعني بإظهار أمور أخرى لا علاقة لها بالحقيقة السياسية موضع البحث، بحيث يسلك طرقا، ويقوم بأعمال جبارة تبذل فيه المهج والأرواح، وتصرف فيه الجهود والطاقات، وترفع لأجله وفيه الشعارات، وتضيع فيه ومن خلاله الغاية والهدف والوقت. كل هذه الأعمال تصرف سدى في حقيقة زائفة لا علاقة لها بالواقع موضع البحث، كمثل الطبيب يصرف الدواء لغير العلة الصحيحة، فيشتريه المريض، ويصرف الأموال والجهود على غير فائدة تذكر، لا بل قد يكون فيه حتفه.
ويريد الكفر ألا تكشف خطته، وألا توجه نحوه السهام والأعمال والجهود؛ حتى يبقى متربعا على عرشه ينظر إلى حركة الأمة، وهي تدور في دوامة لا تخرج منها، حيث يُظهِر لها أمورا لا علاقة لها بما يريد، وكلما أدركت أن هذا السبيل مظلم أدخلها في نفق مظلم آخر، لا يقل خطورة عن الأول باغيا من خلال التضليل السياسي أن يبقى هو كما يريد، وأن تصاب الأمة باليأس والقنوط مستغفلا إياها أن تسلك الطريق الصحيح.
وحتى يتضح أسلوب الغرب الكافر في تضليل أمة الإسلام، لا بد لنا أن نعرض إلى أمور مارس فيها الكفر التضليل السياسي بأبشع صوره، ونعرض إلى نتاج هذا الاستخدام وأثره على الأمة الإسلامية، ومن أبرزها الأمور الآتية:
أولاً: أول مثال نتعرض له هو تحرير فلسطين وما يسمى بمحور الممانعة: لقد مارس الغرب الكافر أعتى أنواع التضليل في مسألة قضية فلسطين، بلد الإسراء والمعراج، لحساسية هذه المسألة، وعلاقتها بيهود، وارتباطها بعقيدة الأمة، فبداية وأول تضليل قام به أن خلع مسألة فلسطين من كونها نتاجا طبيعيا وحتميا لضياع الخلافة حيث فتحت في زمن الخلافة الراشدة، وضاعت بعد ضياع الخلافة، وجعلت قضية قومية خاصة بالعرب، ثم إلى قضية ومسألة خاصة بالفلسطينيين، وربطت بالأمم المتحدة والمواثيق الدولية كمرجع وطريق بديلا عن الجهاد في سبيل الله، وعلقت أعين الناس بمنظمات وحركات علمانية أو يسارية أو وطنية بغلاف إسلامي المظهر، وبأعمال فدائية لتحريك المفاوضات، وحروب مصطنعة للتحريك لا للتحرير، وجعلت من منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا للقضية، فاعترفت بكيان يهود، وأزالت من ميثاقها كل ما يتعارض مع الاعتراف، ودخلت في مفاوضات خيانية، ومؤتمرات، واتفاقيات ذل واستكانة، وتمخضت بطولات الأمة والتضحيات والأرواح والأموال في اتفاقية أوسلو ورفعوا شعارات من مثل: "خذ وطالب وانتظر" في طريق طويل مذل، وشاق نتيجة تضليل الأمة عن الحل الصحيح، وأنتج الغرب ما يسمى بـ "دول الممانعة" لاحتواء كل عمل صادق يعارض اتفاقيات أوسلو وما انبثق عنها وبني عليها. وكانت هذه الدول الممانعة مانعة بحق لعودة فلسطين كما كانت جزءا لا يتجزأ من دولة الخلافة، بل ظلت حارسًا أمينًا على أمن وأمان يهود، ولما تحرك الأهل في الشام ضد طاغية الشام كان القول أنه: إن ذهب نظام الأسد الممانع فلا أمان لكيان يهود!!
ثانيا: محاربة الإسلام باسم محاربة الإرهاب: لقد أدرك الغرب الكافر أن الإسلام مبدأ: "عقيدة ونظام"، وهو يوجب إقامة كيان سياسي مبني على عقيدة الإسلام مطبق لما انبثق عن هذه العقيدة من أحكام ومعالجات، لذا رأى الغرب قوة الإسلام ومتانته، وتعلق المسلمين به، وإيمانهم القوي بأن الإسلام دعوة عالمية ودولية أيضا، كذلك مارس شتى أنواع التضليل على المسلمين بعد القضاء على دولة الخلافة الإسلامية رسميا سنة 1924م حيث مارس التضليل على مراحل عدة: أول هذه المراحل: مرحلة الترويج لأفكاره ومعتقداته ومعالجاته، وأنها البلسم الشافي، والشعارات البراقة مثل: "الحرية، والعدالة، والمساواة، وحق المشاركة، وحق تقرير المصير، والدولة المدنية، والديمقراطية، وأمل الشعوب المقهورة". ولكنها لم تدم بسبب وعي الأمة الإسلامية، وأن ما آلت إليه من ذل وهوان هو بسبب ممارسات الغرب وأفكاره، فأطلق العنان لفكر القومية العربية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وجعل من القومية دينا، ومن زعمائها أربابا، ولكنها انتهت إلى هاوية سحيقة. ولما رأى الغرب عودة صحوة الأمة ووعيها على دينها، بدأ يروج إلى مفاهيمه على أنها لا تعارض الإسلام، وأنتج ما يسمى الإسلام المعتدل، حيث مدنية الدولة، وقبول الآخر، ولم يفلح في هذا أيضا، وقد رفعت الأمة في حركتها شعار: "الخلافة وراية رسول الله" فجاءت "خلافة اللغو" التي ساعدت الغرب في تشويه الإسلام وأفكاره، وفي تشويه الخلافة، فرفع الغرب شعار: "محاربة الإرهاب" وهو يدرك حقيقة أنه إنما يحارب الإسلام فكرا ونظاما وكيانا وأمة. وما التحالف الذي أنشأته أمريكا إلا لمحاربة دولة قادمة وليست قائمة، لمحاربة دولة الخلافة التي على منهاج النبوة، ولكن هيهات هيهات!!
ثالثا: إظهار إيران بمظهر العدو للولايات المتحدة: لقد أظهرت دول الغرب الثورة "الإسلامية" في إيران على أنها ثورة حقة حيث رفعت شعار: "الموت لأمريكا" وأنها "الشيطان الأكبر" لدرجة أن الأمة فُتنت بهذه الثورة، وتزلزلت عروش حكام المنطقة، حيث نادت بتصدير الثورة مع أنها ثورة أمريكية على عميل الإنجليز شاه إيران آنذاك، وقد تعددت وجوه التضليل، فأظهرت أن إيران دولة ذات قرار ذاتي، وذات سيادة، وذات طموحات إلى أن جاءت حرب الخليج وأفغانستان، حيث اعترف ساسة إيران أنه لولا إيران لغرقت أمريكا في وحل أفغانستان، والمستنقع العراقي. ثم جاءت ثورة الشام فوقفت إيران "عدو الولايات المتحدة"! مع نظام الأسد المجرم العميل للولايات المتحدة، وحافظت على بقائه، وقدمت له الرجال والسلاح والأموال، ثم ها هي أمريكا ترفع إيران عن قوائم الإرهاب، وتطالب برفع العقوبات عنها، وإعادة الأموال المجمدة لها. وأطلقت يدها في المنطقة لتحقيق المشاريع والخطط الأمريكية نيابة عنها في الخليج والشام وأفغانستان والعراق واليمن وغيرها..
هذه بعض الأمثلة على تضليل الغرب الكافر للمسلمين في قضايا كبيرة وحساسة، حيث بذلت الأمة الإسلامية الكثير من الطاقات والجهود، وأهدرت الأوقات نتيجة التضليل السياسي، ولقد بين الإسلام خطورة التضليل السياسي، ووجوب الكشف السياسي لمخططات الغرب الكافر في قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾. [الأنعام: 55] وسبيل هنا نكرة مضافة تفيد العموم أي يجب عليكم أيها المسلمون أن تتوضحوا طريق الكفار في محاربة الإسلام والمسلمين، ووجوب كشف مخططاتهم، وفضح مؤامراتهم، وبيان الحكم الشرعي من خلال الوعي السياسي على الأحداث، وربطها بالعقيدة الإسلامية، وما أجمل وأدق ما روي عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" أي لست بالماكر المخادع، ولا الماكر المخادع يخدعني.
رأيك في الموضوع