لقد ظهر الموقف الأوروبي مختلفا عن الموقف الأمريكي بشكل جلي حيال أزمة أوكرانيا؛ فقد أعلنت أمريكا أنها تريد أن ترسل السلاح إلى أوكرانيا بدعوى مواجهة التمرد في شرقها الذي تدعمه روسيا، بينما أعلنت أوروبا رفضها لذلك وأصرت على الحل السياسي والاتفاق مع روسيا، وتحركت أوروبا بالفعل ممثلة بألمانيا وفرنسا وعقدت اتفاق مينسك مع روسيا يوم 6/2/2015 والذي يقضي بوقف إطلاق النار شرق أوكرانيا وإقامة منطقة منزوعة السلاح.
فأمريكا لها هدفان يتعلقان بهذه الأزمة؛ فالهدف الأول هو أنها تريد أن تجعل أوكرانيا بؤرة توتر ساخن تؤرق روسيا وتقلقها لتجعلها وسيلة ضغط وابتزاز تجاهها تضغط عليها وتبتزها في القضايا التي تريد منها تحقيق أهداف فتجعل روسيا تتنازل أو تفسح لأمريكا المجال أو تجعلها لا تقف في وجهها سواء في قضايا منطقة الشرق الأوسط مثل سوريا وإيران أو قضايا آسيا الوسطى حتى تتمكن من التركز فيها أو في منطقة القوقاز مثل مسألة جورجيا وضمها للناتو أو في أوكرانيا نفسها، لتجعل روسيا تقدم التنازلات حتى تحكم سيطرتها عليها وتبعد التأثير الأوروبي عنها وتمسك بها وتجعل هذه المسألة بينها وبين روسيا لتستفرد فيها، ومن ثم تمهد أمريكا الطريق لضم أوكرانيا إلى الناتو.
وأما الهدف الثاني فإنها، أي أمريكا، لا تريد أن تجعل لأوروبا دورا رئيسيا في مسألة أوكرانيا بدأت تلعبه مؤخرا منذ أن بدأت تضغط على الرئيس السابق لأوكرانيا يانكوفيتش إلى أن تعهد لها بأن يوقع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 فعندما تخلى عن ذلك بتشجيع من روسيا أثارت أوروبا الثائرة ضده إلى أن سقط في شباط/فبراير عام 2014، فظهر لأوروبا دور رئيس لا يقل عن الدور الأمريكي في مسألة أوكرانيا، ولذلك استجاب الرئيس الأوكراني بورشينكو لأوروبا للذهاب إلى مينسك مع المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي أولاند ويجلس مع بوتين ويوقع الاتفاقية، مع العلم أن أمريكا كانت تعده بالسلاح المتطور ليواجه التمرد المدعوم من روسيا في شرق أوكرانيا. فأمريكا لا تريد لأوروبا هذا الدور الرئيس في أوكرانيا، بل تريد أن تجعل أوروبا تسير خلفها أو بجانبها على الأكثر وتؤيدها في مواقفها، ولذلك تعمل على إيجاد التوتر بين أوروبا وروسيا وإخافتها بنشوب حرب في أوكرانيا فعندئذ تشغلها بها أو توقعها فيها. وهذا سيؤثر على اقتصاد أوروبا ويضرب العلاقات التجارية بين أوروبا وروسيا فيتضرر الطرفان، ولقد ترك فرض العقوبات على روسيا أثرا سلبيا على الاقتصاد الأوروبي فأضر به، ولذلك فإن الألمان لا يؤيدون فرض العقوبات على روسيا، بل أيدوا حكومتهم بالاتفاق معها، وكذلك الوضع في فرنسا.
فالأوروبيون ممثلون بألمانيا وفرنسا لا يريدون تسليح أوكرانيا حتى لا يؤدي ذلك إلى توتر الوضع فيها وتأزمه وإطالة أمد الحرب الداخلية والتي فيها قابلية التأثير على أوروبا من ناحية تمدد الحرب لتلفحها ومن ثم تنشغل بها عن قضايا مهمة ومن ناحية الضرر باقتصادها. ولهاتين الدولتين مصالح كبيرة في روسيا وخاصة ألمانيا بالدرجة الأولى حيث تقوم الشركات الألمانية بالاستثمار في روسيا. فالأوروبيون يريدون التفاهم مع روسيا وحل الإشكاليات بينهما وفي سبيل ذلك لم يهتموا بقضية القرم، وبذلك اعتبروا أنهم قد قدموا تنازلات لروسيا في سبيل التوصل إلى اتفاق.
ويعتبر هذا أول تحد من أوروبا لأمريكا بأن تتخذ موقفا مغايرا بصورة علنية، حيث كانت مواقفها السابقة العلنية تتقيد بعد أن تخطو أمريكا الخطوة الأولى أو تعلن مبادرتها ومن ثم تعلن أوروبا موقفها العلني بشكل يوافق أمريكا ولا يصطدم معها.
وأما بريطانيا فهي واقفة على حافة أوروبا فلا تسير معها ولا تخالفها بل تعمل على الاستفادة مما تحققه تجاه روسيا لأن مواقفها معارضة للروس ولا تريدهم أن يبسطوا نفوذهم على أوكرانيا. وهي تقف على حافة الأطلسي وتنظر إلى الغرب حيث أمريكا الدولة الكبرى فتعمل على أن لا تظهر معارضتها لها وتظهر أنها تؤيد مواقفها حتى تتقي شر أمريكا وتستفيد منها وتحقق بعض مصالحها بالتظاهر أنها تؤيدها.
وقد تصرّفت ألمانيا كدولة كبرى، حيث تحدت أمريكا في مؤتمر ميونخ للأمن الذي عقد ما بين 6 و9/2/2015 فعقدت الاتفاق مع روسيا أثناء انعقاد المؤتمر، وكذلك ذهبت رئيسة وزراء ألمانيا ميركل أثناء انعقاد المؤتمر يوم 8/2/2015 إلى أمريكا لتبلغ رئيسها أوباما أنهم، أي الأوروبيين، اتفقوا مع روسيا وقد حلت المشكلة ولا داعي هناك لتسليح أوكرانيا.
ومن المتوقع أن يواصل الأوروبيون اتصالهم بروسيا ويحاولوا تعزيز الاتفاق معها بشأن أوكرانيا ويشجعوا بوتين على أن يثبت ولا يتهاون أمام ضغوطات أمريكا فلا يدعها تبتزه، ولا يغتر بإغراءاتها له بجعل روسيا تتوهم أن أمريكا ستعطيها دورا دوليا في بعض القضايا ليشبع رغبة الروس بأن يصبح لهم ذلك الدور والاعتبار الدوليان. فالأمريكان لن يتركوا الروس بحالهم يتفقوا مع الأوروبيين وسوف يحاولون خداعهم وإغراءهم، خاصة أنهم يدركون أن أمريكا صاحبة الثقل الدولي وبالأخص إذا تمكن الأمريكان من جعل الرئيس الأوكراني بورشينكو يميل لجهتهم ويعدل عن جهة الأوروبيين، فتقدم له أمريكا بعض الإغراءات المادية وتغريه بضم أوكرانيا للناتو.
رأيك في الموضوع