بداية تعود مشكلة الدين الأمريكي إلى (اتفاقيات بريتون وودز عام 1944م حيث نجحت أمريكا بفرض وجهة نظرها بقيادة ممثلها الاقتصادي هينري وايت، حيث طرحت الدولار كعملة احتياطية مربوطة بالذهب، بحيث يلتزم الفدرالي الأمريكي بتحويل الدولارات لذهب لأيَ بنك مركزي في أيَ وقت؛ بحكم تفوق أمريكا اقتصادياً وعسكرياً على جميع الدول خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية)، وتمت هذه الاتفاقية بنسبة تحويل 35 دولاراً للأوقية الواحدة آنذاك، ولكن هذه الاتفاقيات لم تضع ضوابط وحدوداً إضافية على أمريكا في مجال إصدار وطباعة الدولار.
ولم تنشأ مؤسسة رقابية دولية مستقلة للإشراف على أمريكا في هذه الصلاحية الخطيرة جداً، بل تركت الأمر لها في خديعة ليس بعدها خديعة، ويبدو أن من وراء هذه الاتفاقية تعمد لإدراكه على المدى الطويل ما تعني تلك الضوابط والقيود، وظهر هذا الأمر جلياً بعد حرب فيتنام؛ حيث خاضت أمريكا حرب فيتنام من العام 1956م - 1975م، واحتاجت إلى المزيد من الدولارات لتغطية تكاليف الحرب، ولكن الدولارات الموجودة لا تكفي، لأن الذهب الموجود في أمريكا، بل والعالم لم يعد كافياً ليغطّي الدولار الأمريكي ولم يعد بالإمكان طباعة المزيد من الدولارات، وبالتالي قامت أمريكا بتجاوز الحد الأعلى المسموح من الدولارات المطبوعة، وقامت بطبع دولارات غير مغطاة بالذهب دون أن تُعلِم أحداً بذلك ومن دون مشاكل حتى ظهرت حقيقة الأزمة عندما طالب الرئيس الفرنسي تشارل ديغول عام 1971م بتحويل الدولارات الأمريكية الموجودة لدى البنك المركزي الفرنسي إلى ذهب حيث طالب بتحويل 191 مليون دولار إلى ما يقابلها من الذهب، وكان سعر الأونصة 35 دولاراً فقامت أمريكا بأكبر سرقة عالمية على مرأى ومسمع من العالم حيث قام رئيسها آنذاك ريتشارد نيكسون بإصدار بيان السرقة في عام 1973م يلغي فيه التزام بلاده بتحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب، عُرفت لاحقاً باسم أو صدمة نيكسون، هذا هو أصل وسبب الدين الأمريكي.
أما سبب ارتفاعه فيعود إلى أسباب كثيرة جداً وعلى رأسها نمو النفقات العامة في الموازنة الاتحادية مقارنة مع نسبة الإيرادات الممولة بشكل رئيسي من الضرائب، ونمو هذا الفارق مع الزمن خاصة تلك النفقات العسكرية والاقتصادية ذات الدوافع السياسية والاستعمارية مع التذكير بتبني المحافظين الجدد منذ عهد ريغان لمدرسة شيكاغو، وسياسة التيسير الكمي، والتي اعتمدها البنك الفيدرالي سنة 1987م والتي تعني التوسع النقدي بلا حدود ولا ضوابط، مُشكلاً عاملاً رئيسياً لارتفاع الدين نتيجة النفقات العسكرية والاقتصادية مع إضعاف الدور التمويلي للضرائب وخاصة الضرائب المباشرة على الأرباح تحت ذريعة تشجيع رؤوس الأموال على الاستثمار.
وهنا نأتي على ذكر أبرز محطات النفقات العسكرية والتي أدت إلى ارتفاع سقف الدين الأمريكي إلى أرقام قياسية نذكرها مجملة:
- ثقافة الاستهلاك لدى الشعب الأمريكي الذي يعيش على مقدرات الآخرين وليس مقدراته.
- حرب فيتنام.
- ارتباط النفط عالميا بالدولار (البترودولار) أعطى لأمريكا القدرة لطبع المزيد من الدولار، مما ساهم في ارتفاع الدين بشكل كبير.
- الحرب الباردة بكل آثارها العسكرية.
- التخفيضات الضريبية في عام 2001م و2003م في عهد الرئيس جورج بوش حيث بلغت 1.6 تريليون دولار.
- تكاليف الربا على الديون.
- الحروب في العراق وأفغانستان؛ فضلاً عن المغامرات العسكرية هنا وهناك، والقواعد العسكرية والانتشار العسكري والقيام بدور الشرطي.
- المشاركة الدولية في المؤسسات الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة؛ فمثلاً اعترف ترامب أن حجم مشاركة أمريكا في منظمة الصحة العالمية 450 مليون دولار مقارنة مع الصين 40 مليون دولار، وخاصة المؤسسات والأحلاف العسكرية كحلف الأطلسي.
- حزمة التحفيز الاقتصادية في عهد أوباما 800 مليار دولار.
- التخفيضات الضريبية عام 2010م والتي كانت حلاً وسطاً بين أوباما والجمهوريين، وذلك بخفض الضرائب المفروضة على الرواتب بمقدار 400 مليار دولار.
- خلق المنافع الطبية للدواء خلال عام 2003م بمقدار 300 مليار دولار.
- إنقاذ الصناعة المالية في عام 2008م بمقدار 200 مليار دولار.
الخلاصة: إن ارتفاع الدين العام على النحو الذي نشهده حالياً ومقاربته للدخل القومي وبهذه المعدلات المرتفعة كما نرى ظاهرة ليست جديدة على الاقتصاد الأمريكي، وهذه ليست المرة الأولى التي ترتفع فيها نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لتتجاوز حاجز الـ90%، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية ارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 52.4% عام 1940م إلى 121.7% عام 1946م، لتأخذ النسبة في التراجع بشكل مستمر تقريباً حتى بلغت 32.5% عام 1981م؛ أي أن الاقتصاد الأمريكي استطاع التعامل مع هذا المستوى الضخم من الدين إلى الناتج، وعادت الأمور إلى نصابها مرة أخرى. وهذه النقطة تجعلنا نقف ملياً عند الحديث عن قدرة الاقتصاد الأمريكي على التعايش مع نسبة دين عالية خاصة وأن الديون الأمريكية تختلف عن غيرها من حيث إن الدين العام الأمريكي سواء الإجمالي أو المملوك بواسطة الجمهور كله مقوم بالدولار؛ أي بعملة تلك الدولة، وهذه هي الخاصية الأساسية التي تتمتع بها أمريكا دون غيرها من الدول. وهذا يعني ببساطة أن احتمال توقف أمريكا عن خدمة دينها العام هو صفر في المائة؛ لأنه على أسوأ الفروض إذا ضاقت السبل بالحكومة الأمريكية حيال خدمة دينها العام فإنها يمكنها ببساطة أن تتحمل قدراً من معدلات التضخم المرتفع في سبيل استيفاء مدفوعات خدمة الدين العام من خلال طباعة الدولار، ومن ثم تخفيض قيمة الدولار، وبالتالي تخفيض قيمة الدين العام من ناحية أخرى ليصبح الدين العام بقرار سياسي أقل من هذه الأرقام المهولة.
بمعنى آخر الدولار يشكل حجر الزاوية في النظام النقدي العالمي، وهو الأكبر في المعاملات المالية والاحتياطية وهذه الميزة تسديد الديون عن طريق طباعة المزيد من الدولار لا تتوفر لغيرها من الدول، هذا جانب وجانب آخر يتجنب الكثيرون الحديث فيه خلال حديثهم عن فقاعة الدين الأمريكي، وهو قياس حجم الدين مقارنة بالدخل القومي فقط، وهذه نظرة قاصرة وليست صحيحة، بل يجب قراءة مسألة الدين من خلال معادلة الدين الصحيحة وهي معادلة بسيطة مغيبة عند أصحاب الحديث عن فقاعة الدين والانهيار، والتي هي معدل فرق الأرقام بين ما على أمريكا من ديون مقارنة بما لها من ديون على دول العالم، إضافة لمعرفة حجم الأصول الأمريكية والتي تقدر بمبالغ خيالية سواء أكانت أصول المعادن منها: الضرائب، ونفط الصخر الزيتي، وبقية المعادن والثروات البحرية والأرضية، والحديث يطول حول مقوات الأصول الأمريكية، فضلا عن المدخلات غير الثابتة نتيجة البلطجة الأمريكية في دفع الإتاوات وتحمل الأعباء عنها، وتقليل النزيف في النفقات بتحميل الآخرين عبء هذا الأمر، وهذا الآن واضح جلي في سياسة ترامب.
إن الأزمات والديون مشكلة لا شك فيها ولا ينبغي التقليل من شأنها، وهي معضلة استدعت من الدولة العميقة وضع استراتيجيات وسياسات من أجل حلها، وهذا ما تقوم به إدارة ترامب حالياً، ولهذا نرى كيف تتعامل إدارته مع أسباب ارتفاع الدين بشكل واضح في التقليل من النفقات بشكل كبير وإعادة النظر في الالتزامات الأمريكية والنفقات الدولية والبلطجة، وإعادة الشركات وضرب الملاذات الضريبية وفرض الضرائب على الأمريكيين خارج البلاد والحرب التجارية، ولكن الأمر الذي يراد ذكره هنا أن الدين الأمريكي لن يكون سبباً وحيداً لانهيار أمريكا، وأن أمريكا قادرة إن أحسنت وضع الاستراتيجيات الصحيحة على التعامل مع سقف دين عال من خلال إدارة سياسية حكيمة ليست مثل إدارة ترامب، وإن حقق للاقتصاد الأمريكي بعض الأموال من خلال حروبه، فالمسألة ليست جني أموال فقط بل المسألة هي توفر عقلية سياسية وليس عقلية التاجر الجشع والنذل، بل من خلال عقلية سياسية كتلك التي كانت في بداية النهضة الأمريكية.
رأيك في الموضوع