من المعلوم أن أمريكا هي صاحبة القرار في سوريا، وهي من يوزع الأدوار على أدواتها، من بطش ومكر والتفاف واحتواء. ومعلوم أيضاً أن روسيا لا تستطيع الخروج عما ترسمه أمريكا في سوريا رغما عنها، وعندما حاولت روسيا أكثر من مرة، أن تتمرد وتغرد خارج سرب أمريكا تحقيقا لرؤيتها الخاصة، وجّهت لها أمريكا صفعات موجعة لتدرك حجمها وحدود دورها المسموح لها به.
لقد كان دخول روسيا إلى سوريا عام 2015 بضوء أخضر أمريكي، في اليوم التالي للقاء أوباما بوتين. وكان لكل منهما حساباته من الدخول؛
فأمريكا أرادتها قوة إضافية تبطش بأهل الشام بعد عدم تمكن إيران وحزبها اللبناني والمليشيات من وأد الثورة. إضافة إلى مكر أمريكا بروسيا لإيقاعها في وحل مستنقع يُحرجها ويستنزفها، ويفقدها بوصلتها وصوابها، ويريها حجمها الحقيقي.
أما روسيا فقد كانت تأمل من تدخلها العسكري المباشر في سوريا عدة أمور، منها:
أولاً: الحقد الصليبي الروسي الدفين على الإسلام ودولته، وخشيتها من انتصار ثورة الشام وما يمكن أن يتبعه من إقامة حكم الإسلام، وقد كان هذا التوجس واضحاً من خلال تصريحات لافروف المتكررة، وبعضها كان عبر منصة الأمم المتحدة.
ثانياً: اندفاع بوتين المتغطرس لإظهار روسيا كدولة فاعلة من جديد في الأحداث الدولية وإخراجها من عزلتها وقوقعتها.
ثالثاً: رغبة روسيا في كسب شيء من ودِّ أمريكا أملاً منها في تخفيف مكرها وقيودها وعقوباتها التي فرضتها عليها بسبب أوكرانيا وغيرها.
رابعاً: مطامع مادية تأملتها روسيا من تدخلها في سوريا.
طال الأمد ومضت سنوات على التدخل، وتململ الدب الروسي، وزادت تكاليف تدخله، وبدأ يتوجس من غياب أفق نهاية النفق، وشعر بمكر أمريكا بل أدرك ذلك يقيناً.
لقد بدت روسيا كالمتعهد أو المقاول الأجير الذي يريد إنهاء مهمته كي يقبض ويمشي، لكن رسالة أمريكا كانت واضحة أيضاً: "الدخول ليس كالخروج، لن تخرجوا حتى إنجاز المهمة". علماً أن أمريكا تمكر بروسيا لإخراجها، بعد تأدية دورها، خالية الوفاض وأن تكتفي من الغنيمة من رحلتها بالإياب فقط.
حاولت روسيا الحسم العسكري والاجتياح الشامل مرّات عديدة، لكن أمريكا كبحت جماحها كل مرة، وكانت تركيا أحد أهم الأدوات الأمريكية لتحقيق ذلك. لأنها تصرُّ على الحل السياسي الذي تهندسه وتمهد له، والذي لا يقل خطراً عن الحسم العسكري. فأمريكا تريد حلّا مستقراً، لا المقامرة بحل يمكن أن يخلق لها المشاكل مستقبلاً، ولذلك فهي لا تخاطر بخطوات سريعة يمكن أن يتبعها تفلّت يؤرقها ويمكن أن ينسف جهودها على مدار تسع سنوات لوأد الثورة. فلو سمحت أمريكا لروسيا بالحسم العسكري واحتلال كامل المحرر لسقطت الفصائل المرتبطة، بشكل كامل، ومعها الدور التركي بنظر الناس، ما يعيد إلى الناس قرارهم إلى حدّ كبير، وما يمكن أن يتبع ذلك من إحياء جديد لجذوة الثورة، عبر حراك شعبي بعيد عن قيود الداعمين وإملاءاتهم. وقد حاولت روسيا الاجتياح والحسم العسكري الكامل عام 2018، فقوبل بالرفض الأمريكي، فكان أن أحالت روسيا الأمر للأمم المتحدة، ما يعني فهمها وإذعانها للرسالة الأمريكية.
هذا لا يعني عدم مباركة أمريكا لسياسة القضم الجزئي الممنهج الذي يزيد الخناق على أهل الشام، بالتوازي مع المكر التركي، ليقبلوا بما يملى عليهم من حلول قاتلة.
أمريكا تريد الحل في جنيف وفق رؤيتها، وروسيا مستعجلة، تتلظى وتحاول تسريع الأمر عبر مؤتمرات عدة في موسكو وأستانة وسوتشي.
أمريكا تترك المجال لروسيا عندما تتحرك ضمن إطار ما يخدم الرؤية الأمريكية، فإن شذّت أو تطاولت، تم تحجيم دورها والتأكيد عليها أن الحلَّ سياسيٌّ، وفي جنيف الأممي (الأمريكي) حصراً، لا عبر اجتهادات روسية في مؤتمرات فرعية هي بمثابة روافد لجنيف بشكل أو بآخر وليست بديلا عنه. علماً أنه عندما تشعر أمريكا أن ظروف مكرها قد نضجت في سوريا، وأن بإمكانها إخراج روسيا خالية الوفاض، يستوي عندها حينها الحل السياسي أو الاجتياح العسكري، لتثبيت نظام عمالتها في دمشق. وقد أبدت روسيا أنها غير متمسكة بشخص بشار، وما يهمها هو ما تحصله من مكاسب، بأي مخرج كان، من شأنه أن يخلصها من مأزقها الذي وقعت فيه.
أما ما يحصل من صراعات داخلية داخل النظام، فمرده إلى إدراك زبانية النظام مدى ضعفه وعجزه، وإلى ضائقة اقتصادية خانقة تفرض نفسها عليه وعلى داعميه، فهو مستنزف ومهلهل ومفلس، يضرب يميناً وشمالاً لتأمين بعض السيولة لروسيا التي تريد بعض أتعابها، فتضغط على بشار لتسديد دفعات عاجلة، ما يضطره للضغط على جماعته وتجّاره لتأمين ما أمكن لإرضاء روسيا ولو مؤقتاً.
وجدير بالذكر أن العلاقة بين أمريكا وروسيا وإيران والنظام ويهود معقدة ولها تشعبات وحيثيات، وبينهم ما بينهم من حسابات معقدة.
وقد يكون الحديث عن مرشحين محتملين للرئاسة بمثابة بالونات اختبار لجس نبض الشارع، أو هي أمنيات روسية بائسة، أو إشغال للناس وتمرير للوقت في ظل ما تحتاجه ترتيبات الحل السياسي من وقت طويل يحتّم القضاء على النفس الثوري والجهادي الموجود على الأرض.
صحيح أن أمريكا هي التي تمسك بزمام الأمور حتى الآن وأنها هي من توزع الأدوار، إلا أن أكثر ما تخشاه هو تفلُّت الشارع وأن تخرج الأمور من يد أدواتها، بسبب تخوفها من فكرة الثورة المتجذرة في نفوس الناس، ومن الرأي العام الذي تشكل رغم ما يشوبه. ولذلك فهي غير مستعجلة رغم عدم ارتياحها للتأخير وما يمكن أن يخبئه المستقبل من متغيرات.
وإن الحل السياسي الذي تسعى له أمريكا، عبر القرار ٢٢٥٤، يتلخص بمرحلة انتقالية يتم فيها تطعيم حكومة النظام ببعض الشخصيات التي تعتبر الوجه الآخر له، والتي تزعم المعارضة نفاقاً، مع الحديث عن دستور جديد أو تعديل شكلي له ليبقى علمانياً خالصاً يعلن الحرب على الله ورسوله وشريعته، وانتخابات مسرحية مستقبلية، مع بقاء المؤسستين الأمنية والعسكرية جاثمتين على صدور الناس، وتمهيدا لانخراط الجيش الوطني مع جيش النظام نفسه، لتتحول فوهات البنادق من قتال نظام الإجرام إلى قتال من يعارضه ويقف بوجه الحل السياسي القاتل. وقد قالها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري في فينّا عام 2015: "سنعمل على محاربة الفصائل التي تقف في وجه الحل السياسي"، وبمعنى آخر، فإن ما سبق يعني تثبيت أركان النظام ووأداً للثورة وهدرا لتضحياتها. وكل ذلك يتطلب إخراج الدول والمليشيات المشاركة في الصراع في سوريا بترتيبات معينة. طبعا هذا مكرهم، ومكرهم إلى بوار بإذن الله، يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
وإن في الشام رجالاً أقسموا ألا يرضوا الدنية في دينهم، على الحق ثابتون ولإسقاط نظام الإجرام وإقامة حكم الإسلام عاملون.
نسأل سبحانه الثبات والسداد، وأن يكرمنا بفرج منه ونصر قريب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع