تتالت تصريحات كبار المسؤولين الرسمية وغير الرسمية في الآونة الأخيرة بخصوص الوضع الاقتصادي والإنساني للبلاد، حاملة دعوات مشبوهة إلى أهل تونس للاستعداد لـ"إجراءات مؤلمة وموجعة" في الوقت الذي يتقلّب فيه الناس على وجوههم حيرة في توفير لقمة العيش اليومي، وتتضوّر بطون الآلاف من أبناء الشعب جوعا، ليس من صيام النهار فقط، بل فقرا وفاقة واحتياجا.
موجة من التصريحات تلقى بكل وقاحة على مسامع من لامسوا القاع بحثا عما يسدّ رمقهم، وتهديدٌ باتخاذ إجراءات مؤلمة لمزيد التضييق عليهم ضمن سياسة تجويع وتركيع مدروسة. تصريحات جعلت صفوف التونسيين بكل فئاتهم مرجحة إلى الانفجار في أي وقت بعد أن تنكرت لهم الحكومة وحرصت كل الحرص على خدمة مصالح اللوبي الرأسمالي وشركاته المتباكية على خسائر التوقف عن العمل.
اقتصاد حرب... على الشعب؟!
أعلن رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في الحوار التلفزيوني في 21 نيسان/أبريل المنقضي أن وضع البلاد يستوجب تفعيل ما يُعرف بـ"اقتصاد الحرب" لمجابهة أزمة فيروس كورونا. وتم المرور إثرها مباشرة إلى آلية المراسيم التي تمكن رئيس الحكومة من إصدارها بعد تكليف من البرلمان، والتي صنفت في خانة "اقتصاد الحرب"، وأبرزها التوجه نحو التعبئة المالية. فكانت البداية بدعوة المؤسسات والأفراد إلى التبرع والتوجه نحو الصناديق المانحة والتي سمّوها بالشركاء الماليين الدوليين للحصول على تمويلات ثم الاقتطاع من الأجور.
إجراءات ليست بالجديدة ولكنها أكثر وحشية وجرأة على جيوب العامة وأشدّ امتهانا لشق واسع من المهنيين والعمال والموظفين والأجراء، إذ كانت بدايتها بقرار اقتطاع يوم عمل من الموظفین والعاملین في القطاع العام والخاص وبصفة إجبارية، بعد أن تقاعس أصحاب "رأس المال الوطني" عن المساهمة المعتبرة مقارنة بما يملكون، وأضيفت إليها قروض مختلفة من صندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما من الجهات التي أقرضت العديد من الدول النامية في إطار سياسة استدراج عالمية تقودها المؤسسات المالية الدولية والتكتلات الاقتصادية، لحساب رأس المال العالمي والشركات العالمية التي تجد في الدول التي تعاني نسبة مديونية عالية وتحديدا الدول النامية على غرار تونس فريسة سهلة لتحويلها لأسواق واعدة لفائدتها، ولكن هذه المرة، اتخذت القروض من "مجابهة كورونا" عنوانا لها.
إضافة إلى المنشور الذي أصدره وزير المالية حول التحكم في النفقات العمومية وخاصة نفقات التأجير وإرجاء الانتدابات المبرمجة في إطار قانون المالية 2020 وتصاريح انتدابات السنوات الماضية وحتى السنة المقبلة 2021. منشور استهدف المؤسسات العمومية التي تحّملت لوحدها خلال هذه المحنة كل الأعباء خاصة في قطاع الصحة.
وبالرغم من ذلك دعت أصوات عدة من داخل الحكومة إلى ضرورة استعداد الشعب إلى مزيد من التضحية في الفترة القادمة ما يعني أن إجراءات أخرى قد تكون في الطريق.
وهنا لا يسعنا إلا أن نذكّر بكل أسف بواقع الاستلاب المهين لثروات تونس من شركات أجنبية مستوطنة طول البلاد وعرضها، ثروات مختلفة كان من الأجدر أن تكون موردا أساسيا وكافيا لتعبئة ميزانية الدولة لتحقق كفاية العيش ومجابهة الأزمة دونما حاجة لمد اليد لمن يتربص بالبلد وأهله الدوائر.
لقد كانت برامج الإصلاحات الهيكلية التي انخرطت فيها حكومات ما بعد الثورة مدخلا لاستحواذ رأس المال العالمي والشركات العالمية على مقدرات تونس وثرواتها الطبيعية ومؤسساتها العمومية والخاصة في جميع المجالات بطريقة "قانونية" بعد أن لعب البرلمان دوره في تكييف التشريعات مع معايير الاتفاقيات الدولية - البريطانية على وجه الخصوص، التي وضعتها الشركات العالمية ورأس المال العالمي على مقاس المنظمات الدولية والمؤسسات المالية الدولية التي تولت بدورها جانب الضغط بتوفير التمويل والإيهام بإنقاذ الاقتصاد المحلي عن طريق القروض وصناديق الاستثمار الدولية تحت عنوان التعاون من أجل التنمية.
وإننا على يقين تام من أن حكومة إلياس الفخفاخ لن تخرج عن الوصايا المدمرة للمؤسَّسات المالية الدولية، وستظلّ تتوجّه إلى صندوق النقد والبنك الدوليين لطلب الاستشارة منهما دوريا، نتيجة ارتهانها وقبولها بدور السمسار وجراء عقمها الفكري عن استنباط الحلول خارج دائرة تلك الصناديق ووصفاتها الملغمة.
ولئن تمكن رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد خلال الثلاث سنوات الماضية من تنفيذ جزء كبير من برنامج التفويت الكلي في البلاد ومقدراتها لصالح المستعمر باسم "الإصلاحات الهيكلية" التي وضعها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد والبنك الدوليان مقابل قروض رهنت الشعب وأتت على مؤسساته العمومية، واستطاع بمعية البرلمان المضي في سن جزء مهم من ترسانة قانونية مهّدت لمشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي مثل قانون النظام الأساسي للبنك المركزي والقانون الأفقي للاستثمار وقانون السلامة الصحية للمواد الغذائية وأغذية الحيوانات. والقانون المتعلق بحقوق الملكية الفكرية المرتبط بصناعة الأدوية، رغم ذلك كله فإن حكومته لم تستكمل برنامج الإصلاحات الخيانية ذاك، لتأخذ حكومة الفخفاخ المشعل وتكمل مشوار التدمير بعناصر حكومية معروفة بولائها إلى الاتحاد الأوروبي، ومكشوفة الأجندات والأهداف.
إن المشكلة الاقتصادية في تونس هي سياسية في الأساس، وقد تعمقت في السنوات الأخيرة وزادت تعاظما بعد إصرار حكومات ما بعد الثورة على تطبيق النظام الرأسمالي الذي فرضته مؤسسات المستعمر الغربي المالية والسياسية على الناس بكل أساليب المكر والخداع، فالنظام القائم بتبعيته وولائه الفكري والسياسي للغرب وارتباطه الوثيق به كلّيا، يمنع البلاد من استغلال ثرواتها، وجعلها تسير وفق مصالح السياسات والاتفاقيات الاقتصادية الدولية الطامعة.
لقد كان من سنة الله تعالى أن هيّأ الأسباب ورتب عليها المسببات، فأسبابٌ للمعاش وأسباب للاستطباب وأسباب لكل أمر من شؤون الحياة، إلا أن أعظم الأسباب ما كان موصلاً إلى مرضاة الله، وليس أهم من سبيلٍ إلى ذلك غيرُ العمل لإعادة حكمه في أرضه، فمتى ما أُخِذ بتلك الأسباب التي جعلها الله أسباب نجاة وفلاح في الدنيا والآخرة كانت نتيجةُ الأمر نجاةً وفلاحاً، وإن كانت غير ذلك ذهب الفلاح والنجاة وأعقبها الذل والخسران.
ولئن كانت الدعوة مرفوعة منذ عقود، والحال اليوم على ما هو عليه من هوان واستضعاف، فإنه لا يسعنا إلّا أن نكررها، أن هلُمّ نحو حُسن استخلاف، بدين قويم وشرعٍ سليم وربّ رحيم، هلمّ إلى نظام يشفي العالم من سوءات الكافرين ومخازي عملائهم وأتباعهم العابثين. ويعيد أمتنا لتتبوأ مكان العزة، فتسود ولا تساد، وتقود ولا تقاد، تأمر بأمر الله فتطاع، وتنهى بنهي الله فلا تعصى.
ولقد أعدّ حزب التحرير مشروع دستور لدولة عزيزة منيعة، خلافة راشدة على منهاج النبوة، مشروعاً وضعه بين أيدي المسلمين - وهم اليوم يخوضون ويثورون ويبحثون عن مخرج - ليتصوروا واقع الدولة التي فيها الخلاص، وشكلها وأنظمتها، وما ستقوم بتطبيقه من أنظمة الإسلام وأحكامه، وإنهاء سيطرة الغرب، وإنهاء تدخله في شؤوننا.
بقلم: الأستاذ أحمد بنفتيته
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع