بعد خروج العالم من الحرب العالمية الثانية، عملت أمريكا على صياغة النظام العالمي؛ سياسيا من خلال مجلس الأمن الدولي ومن ثم الأحلاف الدولية، واقتصاديا من خلال اتفاقية بريتون وودز وصندوق النقد والبنك الدوليين. ثم أقنعت أمريكا منافسها الأكبر الاتحاد السوفيتي بإزاحة فرنسا وبريطانيا عن مستعمراتهما في العالم القديم لصالح أمريكا وتفرد روسيا بدول أوروبا الشرقية.
ثم رأت أمريكا أن تتخلص من اتفاقية بريتون وودز سنة 1971 وأن تجعل من الدولار المقياس الرئيس للعملات والنقد الدولي بدلا من الذهب، على أن تضمن ذلك من خلال حصر تجارة النفط بالدولار، ومن ثم عمدت إلى تحرير الدولار من أي قيد بما في ذلك النمو الاقتصادي من خلال قرار رئاسي اتخذه الرئيس ريغان عام 1983. حيث بدأت الثروة المالية للولايات المتحدة تتضاعف أكثر من النمو الاقتصادي بمرات عديدة، فبينما الاقتصاد كان ينمو بمعدلات تتراوح بين 3-8% كانت الثروة النقدية تنمو بمعدلات تصل 50% وأكثر.
وقد نتج عن فصل الدولار عن الذهب من جهة وتحريره من النمو الاقتصادي من جهة أخرى ما عرف بالاقتصاد الافتراضي أو الوهمي والذي يعرف بأبسط حالاته بوجود مال لا يقابله بضاعة أو إنتاج أو خدمات. وقد تمكنت أمريكا من خلال هذه الإجراءات بأن تتحكم بسوق النقد العالمي، وبالتجارة الدولية، حيث إنه أصبح لزاما على جميع الدول في العالم أن تحتفظ بكم كبير من الدولارات من أجل إتمام أعمالها التجارية خاصة تلك المتعلقة بالطاقة والنفط. وأصبح بمقدور أمريكا أن تتحكم بأسعار العملات لكثير من الدول العالمية من خلال التحكم بكميات الدولارات التي تنتجها هي من خلال البنك الفيدرالي.
واتخذت أمريكا من نفوذها في منظمة أوبك من خلال السعودية وشركة أرامكو التي تتمتع بنفوذ كبير فيها، تمكنت من التحكم بسوق النفط من حيث كمية النفط المتوفر في العالم للتجارة، وأسعاره، وتسويقه.
وخلال أزمة تفشي وباء كورونا الحالي قل الطلب على النفط خاصة من الصين التي تدفع فاتورة حوالي 20% من منتوج النفط العالمي. وحاولت أمريكا وعميلتها السعودية العمل على المحافظة على أسعار النفط من خلال تقليل الإنتاج، إلا أن روسيا وهي ليست عضوا في منظمة أوبك رفضت تخفيض الإنتاج، ظنا منها أن كثرة الإنتاج تعوض خسارتها الناجمة عن خفض الأسعار. فعمدت السعودية بالاتفاق مع أمريكا (والتي ادعت على لسان ترامب أن الوقت ليس مناسبا للتدخل في الخلاف بين السعودية وروسيا)، عمدت إلى رفع سقف الإنتاج من طرف واحد إلى درجة خفض الأسعار للحد الذي يصبح عبئا على روسيا. وكانت روسيا قد أعلنت في البداية أنها لا تتضرر من رفع سقف إنتاج السعودية، إلا أنها عادت على لسان وزير الطاقة لتطلب العمل على وقف تدهور أسعار النفط.
وفي المقابل أوردت وسائل الإعلام خبرا مفاده أن أمريكا تسعى لإيجاد حلف نفط جديد بين أمريكا والسعودية، تنهي به منظومة أوبك، وتمسك من خلاله أمريكا بسوق النفط مباشرة وليس من خلال أوبك بزعامة السعودية.
ولعل أمريكا أرادت استغلال الظروف الحالية من خلال أمور عدة للقيام بخطوة استراتيجية فيما يتعلق بالنفط، ومن هذه الأمور:
- انصياع السعودية التام ممثلا بولي العهد محمد بن سلمان لتعليمات ورغبات أمريكا.
- أزمة أسعار النفط الحالية والتي انهارت بشكل قوي وتنذر سوق النفط بالانهيار ما يجعل الدول النفطية الأخرى تقبل بمثل هذا الحلف إن كان من شأنه الحفاظ على أسعار معقولة.
- انشغال العالم خاصة الدول الأوروبية كليا بوباء كورونا وإمكانية القبول بأي عمل سياسي اقتصادي قد يكون عاملا مساعدا في احتواء الوباء.
وتذكرنا هذه الخطوة التي تسعى أمريكا لاتخاذها، بما فعلته مع الملك فيصل إبان حرب رمضان 1973 بين مصر وسوريا من جهة وكيان يهود من جهة أخرى، حين عمد فيصل لوقف ضخ النفط مؤقتا للدول الأوروبية ما أدى إلى ارتفاع سعره بشكل كبير، والذي استخدمته أمريكا لتبرير فصل الدولار عن الذهب، ومن ثم اعتماد الدولار في عمليات تجارة النفط. إلا أن هذه المرة، الأمر معكوس، فبدلا من ارتفاعه، فقد انخفض سعر النفط إلى درجة جعل الدول المصدرة للنفط تنتظر حلا بأي ثمن للمحافظة على مكتسباتهم المالية.
والحقيقة أن الظرف الدولي الحالي، على عكس ما يريده ترامب وساسته، قد لا يكون مواتيا لإحداث تغييرات جذرية في سياسة النفط العالمية. فوباء كورونا قد يودي بالنظام المالي والاقتصادي ويؤدي إلى انهيار شامل، وقد يتبعه كما ورد على لسان أكثر من زعيم عالمي تغير في النظام العالمي برمته. ومع انخفاض الطلب على النفط بشكل كبير سواء جراء توقف المصانع عن الإنتاج في الصين، أو توقف وسائل النقل كليا في مختلف أنحاء العالم، وغير ذلك من متطلبات الطاقة، فإنه من غير المتوقع ارتفاع أسعار النفط قريبا لتعوض عن الخسارات المالية.
ومهما يكن من أمر فإن النفط الذي يراهن عليه ترامب ومعه ولي عهد السعودية ابن سلمان، هو أولا وآخرا ملك للأمة الإسلامية ولا يجوز أن يستخدم لدعم النظام العالمي الحالي بأي شكل من الأشكال، فالنظام العالمي الحالي نظام جائر مستبد، وهو يحمل العداء الراسخ للإسلام والمسلمين منذ وجوده وتطوره من شكل لآخر، وهو الذي أعلن حربا ظالمة على غير أساس ضد الإسلام، وهو الذي عمل وما يزال يعمل على إقصاء الإسلام عن الحكم والقيام بمهمته الرئيسة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فمثل هذا النظام العالمي لا يجوز الوقوف إلى جانبه ودعمه بأي شكل من الأشكال، ناهيك عن استعمال كل أداة ممكنة لتقويضه وتخليص العالم من شروره.
بقلم: الدكتور محمد جيلاني
رأيك في الموضوع