يتمادى كيان يهود كثيراً في عدوانه على فلسطين ولبنان، ولا يحسب أي حساب لدول المسلمين، فهو يستخف بها لإدراكه الأكيد بخذلان حكامها في نصرة شعوبها، لذلك تتصاعد مواقفه العدائية ضد أهل فلسطين وأهل لبنان يوماً بعد يوم، ولأنّه يأمن العقوبة منها فإنّه يزداد صلفاً وغروراً وعنجهية في مواقفه وتصرفاته، فأصبح لا يكتفي بالاعتداءات السافرة على المدنيين قتلاً وتدميراً وتهجيراً، بل إنّه يمعن أيضاً في توسيع ضرباته لتشمل سوريا وإيران واليمن والعراق، ولا يحسب لأي قوة خارجية أي حساب، بل باتت قواته تستهدف حتى قوات اليونيفيل الدولية في لبنان، وقد اشتكت قوات اليونيفيل بالفعل من عدوانه عليها، وقالت بأنّها أصبحت تواجه خطراً شديداً، وأنّها استُهدفت مرتين خلال 48 ساعة، وصدرت عن بعض الدول الأوروبية إدانة رسمية لكيان يهود بسبب عدوانه على اليونيفيل، ودعت لتعليق اتفاقية التجارة معه، ورُفعت هذه المسألة إلى مجلس الأمن الذي دعا بدوره على استحياء إلى احترام سلامة وأمن قوات اليونيفيل في لبنان.
والذي يُطرح سياسياً في هذا المقام أولاً هو: ما حجم النفوذ الأوروبي في لبنان؟ وما علاقة الأوروبيين بتشكيل قوات اليونيفيل؟ ثمّ ما هي علاقة الاتحاد الأوروبي بكيان يهود، وما هو تأثير دول الاتحاد عليه؟ وبمعنى آخر ما هو ثقل دول الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط عموماً؟ وهل هذا الاتحاد يملك سياسة واحدة تلزم جميع دوله؟ أم أنّ لكل دولة وضع خاص منفصل عن الدول الأخرى لا سيما في هذه القضية بالذات؟
تعتبر فرنسا وهي من أهم دول الاتحاد الأوروبي نفسها مسؤولة عن لبنان بصفتها المستعمر السابق له، وبذريعة أنّ كثيراً من سكانه من الموارنة الذين تعتبر فرنسا نفسها أنّها الأب الروحي لهم دينياً، لذلك فهي تتدخل في لبنان بشكلٍ دائم لكي تُبقي نفوذها فيه من خلال زعمها أنّ الموارنة هم بمثابة رعايا لفرنسا، وأنّها المسؤولة عن أمنهم وزعامتهم للبنان، فهي بمثابة الوكيل عنهم وتنطق باسمهم.
وبعد عام 2006 ساهمت فرنسا وجرّت معها الاتحاد الأوروبي في إنشاء قوات اليونيفيل وجلبهم إلى لبنان لمنع تدهور الأوضاع في المنطقة، ولتحافظ على نفوذها ومكانتها في لبنان، وتعترف أمريكا لها بنفوذ فيه، فعادة ما تشاورها وتنسق معها شؤون لبنان وذلك لاستبقاء شيء من الاستقرار فيه وحفظ المصالح الدولية وتقاسمها، لكنّ الكلمة العليا في لبنان تبقى غالباً لأمريكا وأدواتها عبر إيران ومجاميعها.
أمّا بقية دول الاتحاد الأوروبي فعادة ما تنساق وراء الموقف الفرنسي وتدعمه، وتقف بجانب فرنسا بوصفها صاحبة النفوذ القديم في لبنان، ومُمثلة لأوروبا في المنطقة.
لكن لما كان سبب الصدام وعدم الاستقرار في لبنان والشرق الأوسط آتياً هذه المرة من جهة كيان يهود فقد اختلفت الأمور، واضطربت المواقف الأوروبية، وانقسمت على نفسها، ففرنسا التي دعمت كيان يهود بقوة في عدوانه على غزة لم تدعمه في عدوانه على لبنان لاختلاف المصالح، لأنّ الحفاظ على لبنان مصلحة فرنسية وليس الأمر كذلك بالنسبة لغزة، وعلى ضوء ذلك انقسم الأوروبيون من عدوان كيان يهود، واختلفت مواقفهم وتباينت تجاه كلٍ من غزة ولبنان.
عند تنفيذ عملية طوفان الأقصى وقفت جميع دول الاتحاد الأوروبي خلف المفوضية الأوروبية إلى جانب كيان يهود بذريعة حقه في الدفاع عن نفسه، ولكن بعد تزايد ظهور جرائم كيان يهود الوحشية في غزة، وبعد تذمّر الرأي العام الأوروبي من بشاعة المناظر التي أظهرت جرائم جيش يهود خاصة ضد النساء والأطفال بدأت الأمور بالتغير داخل أوروبا.
فأعلنت كل من أيرلندا وإسبانيا والنرويج وسلوفينيا ومالطا اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، وأوجد ذلك الإعلان ثغرة في وحدة الموقف الأوروبي التقليدي المنحاز عادة إلى جانب كيان يهود، وأحدث هذا الاعتراف تحولاً في السياسة الأوروبية إلى تبني مواقف أكثر توازناً في الصراع، ومهّد لاعتراف ثماني دول أوروبية أخرى بالدولة الفلسطينية، وهذا الأمر جعل الاتحاد الأوروبي يطالب بوقف الحرب على غزة، واعتبر ذلك بداية تفكك الموقف الأوروبي الداعم للكيان، وكان الدافع الرئيسي وراء هذا التحول هو الرغبة في معاقبة كيان يهود على ارتكابه مجازر ضد الإنسانية واقترافه جرائم حرب لا يُحاسب عليها، وقد صرّح رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز بأنّ: "رئيس وزراء (إسرائيل) بنيامين نتنياهو ليس لديه مشروع سلام لفلسطين"، وهذا التصريح نزل وقع الصاعقة على الأوروبيين، وعكس مشاعر الإحباط الأوروبي من ممارسات كيان يهود الإجرامية.
لكنّ موقفي فرنسا وألمانيا هو الذي يبقى طاغياً على سائر مواقف دول الاتحاد الأوروبي؛ فألمانيا منحازة لكيان يهود كأمريكا أو أكثر، لدرجة أنّ وزيرة خارجيتها برّرت في تصريحها الأخير قتل جيش يهود النساء والأطفال في غزة بذريعة الدفاع عن أمنه، وحكومتها قرّرت استمرار تزويد الكيان بكل ما يحتاجه من ألمانيا من سلاح وعتاد، ومعلوم أنّ ألمانيا تزوّده بـ30% من احتياجاته من السلاح والعتاد.
وفرنسا أيضاً لا تختلف كثيراً عن ألمانيا في مواقفها فهي دعمت وما زالت تدعم كيان يهود عسكرياً ودبلوماسياً وإعلامياً، لكنّها بعد دخول لبنان في الحرب خفّ دعمها له لوجود مصالح خاصة لها في لبنان.
وتبقى حقيقة أنّ الدولة الوحيدة في العالم التي تؤثّر اليوم تأثيراً جدّياً على كيان يهود هي أمريكا، وأنّ مواقف الدول الأوروبية - بما فيها ألمانيا وفرنسا - لا تُغيّر ولا تؤثر بمعزلٍ عن موقف أمريكا، ولا يستطيع الاتحاد الأوروبي ولا مفوضيّته إلا الانجرار وراء سياساتها بخصوص الصراع على الشرق الأوسط.
رأيك في الموضوع