اتسم المشهد السياسي في تونس بعد فشل المرحلة الأولى لتشكيل الحكومة بسقوط حكومة الجملي وانقضاء الثلث الأول من مهلة الشهر التي يحظى بها إلياس الفخفاخ لتشكيل حكومته وعرضها على التصويت بالضبابية حول مآل العملية السياسية والتصعيد والمناورات من الأطراف البرلمانية والركود بالنسبة للأوضاع الاقتصادية والملفات الساخنة وانشغال الرأي العام عن كل هذا بقضايا جزئية افتعل الإعلام التركيز عليها في هذه الآونة، أما رئيس الدولة وحكومة تصريف الأعمال فحضورهم السياسي على هامش المحاور المهمة يعكس غياب الدولة وارتهانها لفاعلين من خارجها.
ولاستجلاء هذا المشهد نحاول الإجابة على الإشكاليات التالية:
1-هل تعطل تشكيل الحكومة مقصود للإبقاء على حالة الاستثناء التي تعيشها البلاد أم هي إفرازات طبيعية للتنازع بين مكونات المشهد السياسي ضمن أحكام الدستور؟
2-هل سيوصل الاستعمار مراهنته على الأحزاب الفائزة في الانتخابات ضمن توافق القوى العلمانية التقليدية وقوى العلمانية "اليمينية" حتى لا نقول الإسلامية بالرغم من ضعف التمثيلية الشعبية للطرفين أم أنه سيراهن على الجواد الرابح الوحيد الذي هو رئيس الدولة؟
3-ما هو أفق إنجاح العملية السياسية ضمن إطار المشروع الغربي في القضاء على الفساد في الحكم والإدارة ولإيجاد الحلول للملفات التي ثار عليها الشعب سنة 2011، أم آن الأوان لتغيير النظام برمته وتحقيق مطلب الثورة بإسقاط النظام لإقامة نظام الحق والعدل شريعة إسلامية في دولة خلافة راشدة؟
أولا: من الثابت أن السلطة في تونس استفادت من غياب حكومة رسمية تتحمل أعباء ضغوط صندوق النقد الدولي في الترفيع في ثمن المحروقات على قسطين وفي إجراء الإصلاحات التي يفرضها الصندوق بالنسق الذي يريد كما أن السلطة قد امتصت الضغوط المجتمعية التي يقودها عادة اتحاد الشغل في شهر كانون الثاني/يناير خاصة. فاتحاد الشغل يبدو متفهما غياب الجهة الرسمية لمطالبه واحتجاجاته أو هو جزء من الخطة، أما على المستوى الإقليمي فإن غياب الحكومة الرسمية يجعل الموقف التونسي هامشيا في الظاهر وهذا يعفيها من ضغط موقف قوي مع هذا الطرف ضد ذاك. فالضغوط التركية مثلا لاستغلال موقف تونس لفائدة تدخلها لا تبلغ مداها.
وكذلك على الصعيد الدولي فإن الصراع الدولي بين أمريكا وأوروبا على شمال أفريقيا بات قويا. ويمثل حفتر حجر زاوية للنفوذ الأمريكي مع دعمه من طرف النظام المصري ودخول تركيا وروسيا على الخط ظاهريا مع حكومة السراج، ولكنهما في الحقيقة تتحركان بضوء أخضر أمريكي ووفق مصالح أمريكية، وربما كان غياب تونس على مؤتمر برلين خيارا أوروبيا لإعفاء تونس من ضغطأمريكا وأتباعها.
لذلك نقول إن عدم تشكيل الحكومة وربما إسقاط حكومة الفخفاخ والمرور إلى مرحلة جديدة من انتخابات تشريعية لا يخيف كثيرا من يخطط للسلطة التونسية، أما التصعيد والمناورات التي يعيشها البرلمان فقد رأينا تصعيدا ومناورات أكبر بين نداء تونس والنهضة ثم بأمر من المسؤول الكبير عاشت البلاد في ظلال التوافق بين الطرفين.
كذلك كانت الحال بين الباجي والشاهد وبأمر ممن يحكم في البلاد من وراء البحار خضع الطرفان بحجة المصلحة الوطنية. فمتى أرادت بريطانيا أن تشكل الحكومة كان يكفيها أن تقرر ليتم التنفيذ.
ثانيا: لا شك أن الاستعمار الذي بيده مقاليد السلطة في البلاد لا يراهن كليا على الجواد الخاسر ولا يضع بيضه في سلة واحدة ولا شك أن نتائج الانتخابات التي جعلت من الفائزين حينها خاسرين بمعنى الشرعية الشعبية فما بالك بالخاسرين فعلا؟ قد افتقد مجلس النواب القدرة على تمرير القرارات سواء في تشكيل الحكومة أو في تمرير مشاريع القوانين وهذا انتقاص من مكانة المجلس في السلطة، في المقابل نجح رئيس الدولة في الانتخابات الرئاسية بنسبة مئوية أهلته لمشروعية شعبية واسعة زاد تأكيدها شعاره "الشعب يريد"، لكنه يبقى دائما مفتقدا للحزام السياسي الحزبي.
كل هذا يرجح أن تفقد النهضة اعتبارها عند الإنجليز، وكذلك سيخسر مجلس النواب من مكانته في السلطة وربما ما نراه من تهجين للمشهد البرلماني ومستوى مستفز لبعض نوابه وانسداد لأفق قيامه بمهامه إن هو إلا إيذان بإجراء تحويرات دستورية، إما في اتجاه نظام رئاسي أو في اتجاه اعتماد الحكم المحلي والمجالس المحلية الذي ينطلق بناء هيكل السلطة فيه من القاعدة الشعبية في الجهات. وفي كلتا الحالتين يكون خراج ذلك لقيس سعيد بوصفه الرئيس أو بوصفه صاحب مشروع المجالس المحلية في الجهات لكن هذا الأمر يلزمه الكثير من الوقت. أما بسقوط حكومة الفخفاخ واشتداد أزمة الحكم ليصبح التحوير الدستوري ضوء النجاة في قاع النفق أو يمرر حكومة الفخفاخ ربما إرضاء لصندوق النقد الدولي ثم إسقاطها بعد فشلها في تحقيق ما وعدت به. مهما يكن من أمر الأحزاب وقوة تمثيليتها أو ضعفها فإن الرئيس يحتاج إلى دعم حزبي ولا نظن أن يخرج هذا الدعم عن حزب النهضة وحزب قلب تونس لإنشاء التوافق بين العلماني التقليدي والعلماني اليميني وباقي الأطراف السياسية إما ديكور لهذا التوافق أو عدو تقليدي يمثله يسار ساقط.
ثالثا: إن الدولة العلمانية التي جاء بها الاستعمار على رقاب المسلمين بعد إسقاط الخلافة وسلخهم من أمتهم وشريعتهم وخلافتهم أذاق الناس ويلات التخلف والتشرد والفقر والاغتراب والفساد في الحكم والإدارة ونفذ فيها عملاء الاستعمار الخائنون لله ولرسوله ولأئمتهم ولأمانة الحكم مشاريع الحضارة الغربية الكافرة الفاجرة، وبعد اليأس من هؤلاء الخونة بدأت ثورة الأمة على حكامها وكانت الانطلاقة من تونس لكن الاستعمار الغربي أذاق الأمة ويلات التمرد عليه وعلى عملائه بالتقتيل والتهجير وبزيادة جرعة ظلم الحكام وهوانهم مع جعل طريق التغيير ذا اتجاه وحيد: الانتقال الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة ضمن الدولة المدنية العلمانية، لكن الشعوب بدأت تصحو من فكرة الانتقال الديمقراطي اللعين لتتأكد أن النظام الذي نادت بإسقاطه يعاد بناؤه من طرف الاستعمار بشكل أمتن وأن البحث يجب أن يكون خارج هذه المنظومة الكافرة بالله ورسوله وهي ما فتئت تستمع من فتية آمنوا بالله ورسوله إيمان القائد المفكر المخلص لأمته الصادق معها، نداء يتكرر ويتجذر ويصعد إلى عنان السماء أن الحل يكمن في مشروع دولة الخلافة الراشدة التي تحكم بشرع الله وتجمع أمة الإسلام في دولة واحدة وتحمل رسالة محمد e إلى العالم.
هذا النداء مع راية العقاب ترفرف فوق هؤلاء الفتية مع شيوخ زادهم الله بسطة في العلم والتقوى يوجه اليوم بوصلة الأمة جمعاء نحو نبذ المشروع الغربي العلماني ونبذ من خدمه خاصة مشائخ السوء، أما المنتمون للأجهزة الرسمية للدولة أو المنتمون إلى الحركات الإسلامية هؤلاء جميعهم لا صلاح يرتجى من جانبهم والتوجه نحو مشروع الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس مشروع الخلافة الراشدة ونحو حملة الدعوة لهذا المشروع. ولم لا تكون تونس سباقة إلى هذه الهداية. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
بقلم: الأستاذ سعيد خشارم
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع