خلال كلمة ألقاها بقصر الضيافة، الاثنين 23 كانون الأول/ديسمبر 2019، أعلن الحبيب الجمليمرشح حركة النهضة عن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة عن جميع الأحزاب، محملا بعض الأحزاب مسؤولية فشل المفاوضات المضنية التي خاضها منذ تكليفه من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 لتشكيل حكومة هي الأعقد منذ اندلاع الثورة، حيث سيطرت على الأحزاب العقلية الانتهازية الغنائمية التي جعلت من الحقائب الوزارية التي ستحظى بها أولى أولوياتها خلال المفاوضات.
حركة النهضة التي تقوم بالتفاوض من أجل إنجاح حكومة مرشحها ضمنت مساندة كتلة قلب تونس التي تعتبر نفسها صاحبة مشروع تكوين حكومة من الكفاءات المستقلة عن الأحزاب، وستصوت لمصلحتها، مما يعني كتلة واضحة يشكلها 92 نائبا، ولم يبق للجملي إلا 17 نائبا لضمان مرور حكومته التي سيعرضها على مجلس النواب لنيل الثقة، في خطوة تبدو محرجة لحركة الشعب والتيار الديمقراطي وتحيا تونس بما أن موقف بقية الكتل كان واضحا منذ البداية سواء بالرفض أو بالدعم المشروط.
الغريب في الأمر أن مفاوضات تشكيل الحكومة تمحورت حول أشخاص الحكم والمناصب الوزارية دون التعرض للبرامج والرؤى، بالرغم من أن وضع البلاد وصل إلى عنق الزجاجة ويحتاج لمشروع حضاري نابع من عقيدة الأمة، قادر على انتشال البلاد من السياسات الرديئة التي درجت عليها الحكومات المتعاقبة وأدخلت البلاد في بحر من الديون المتراكمة التي بلغت أكثر من 82.6 مليار دينار، أي ما يعادل71.1% من الناتج المحلي الإجمالي، مما جعل البلاد تحت الوصاية الغربية والمؤسسات المالية، حيث تم الكشف مؤخرا عن وجود لجنة قيادة اقتصادية صلب البنك المركزي التونسي، تضم عدداً من الأجانب وعلى رأسهم السفير الفرنسي بتونس، والإدارة العامة للخزانة الفرنسية، وسفير الاتحاد الأوروبي، ومنظمات أوروبية أخرى ترسم السياسات الاقتصادية للبلاد وتسمى بـ"لجنة قيادة الدراسات الاستراتيجية وإعادة بناء وتنمية الاقتصاد التونسي"، وفي هذا الإطار جاء مشروع القانون الأساسي الذي ينص على استقلالية البنك المركزي الذي يمثل السلطة النقدية للبلاد، حتى يتم توجيهه من طرف لجنة يقودها أجانب أقل ما يقال فيهم إنهم يعملون على تأمين مصالح دولهم. أما الكارثة الأخرى فهي اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق (الأليكا) مع الاتحاد الأوروبي، والتي تهدد الأمن الغذائي للبلاد، باعتبارها تستهدف القطاع الفلاحي وهو آخر ما تبقى من موارد بعد تسليم الثروات الطبيعية للشركات الاستعمارية والسير في التفويت في المؤسسات العمومية للرأسمال الأجنبي.
إن تحركات سفراء بريطانيا وفرنسا في تونس ووجود أعضاء أجانب في لجنة قيادة الاقتصاد التونسي بالبنك المركزي، يدل على أن النفوذ الغربي متغلغل في البلاد، فالغرب هو الحاكم الفعلي، في حين تمثل النخبة السياسية مجرد أدوات، ولذلك فإن التصويت للحكومة الثالثة عشرة بعد الثورة، لن يغير من الأمر شيئا، فالحكومة القادمة لن تختلف عن سابقاتها، فهي تبدأ بالتسويق لها بجوقة إعلامية هائلة وبوعود كاذبة ثم تنتهي بفشل ذريع وبدعوات لحلها، لأنها لن تخرج عن المشروع الغربي، والرأي العام في تونس يدرك بأن هذه الحكومة لن تكون سوى حبّة مسكّن لكسب الوقت وأنها لن تحل المشكلة باعتبار المشكلة تكمن في المنظومة الرأسمالية والنفوذ الغربي ومؤسساته المالية، وهكذا سوف يستمر حكام تونس في الغباء السياسي وستصدق فيهم مقولة آينشتاين "الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وانتظار نتائج مختلفة"، فهم في كل مرة يسيرون وفق النظام الرأسمالي الذي هو أس البلاء ويتبعون وصفات صندوق النقد الدولي وجرعاته المميتة ثم ينتظرون نتائج مختلفة!
ما يحز في النفس هو أن تتواطأ الطبقة السياسية في تونس بالتعدي والتحدي لإقصاء الإسلام من منظومة الحكم والتشريع في الدستور وسائر القوانين، وكأن الثورة كانت على الإسلام وأحكامه، في حين يدرك الجميع أن غياب الإسلام عن واقع الحياة هو الكارثة الكبرى التي جلبت الخراب والشرور.
لن تكون السنة الجديدة في بلد الزيتونة والقيروان سهلة على الغرب وحكومته الجديدة، فالغرب اليوم في أضعف حالاته أمام حراك الأمة الممتد من العراق شرقا إلى الجزائر غربا، وهو يتخندق في آخر الساحات وهامش التحرك عنده ضئيل وأوراقه مكشوفة، ومشروعه الحضاري يحتضر ورجالاته عاجزون وقبضته تراخت، وبالمقابل فإن النفَس الثوري قد تجدد عند أحفاد عقبة، وهم اليوم أكثر من أي وقت مضى متحفزون لإتمام ثورتهم بالإسلام باعتباره البديل الحضاري الوحيد القادر على تحريرهم تحريرا كاملا غير منقوص، ليجعلوا من بلد الزيتونة والقيروان نموذجا ونواة لدولة قوية تلتحم مع امتدادها الطبيعي في المنطقة، لنشر العدل في الأرض بعدما امتلأت جورا.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾.
بقلم: الدكتور الأسعد العجيلي
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع