1- خدعة إيهام الشعب في الجزائر أنه على قدر عالٍ من الوعي!
لم تمض سوى أيام قليلة على انطلاق حراك الجزائر في شهر شباط/فبراير 2019م حتى تداعت جميعُ الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية لتقول إن الشعب الجزائري بلغ من الوعي والنضج السياسي ما أبهر العالم بسلمية تظاهراته وحسنِ تنظيم مسيراته وتحضر أسلوب احتجاجاته! وهو بذلك جدير بأن تلبى مطالـبُه وتُحقق له رغباتـُه.
ولكن ربما كان الأمر سيستغرق عقوداً طويلة من عميل فرنسي أو من فرنسا نفسها المعروفة في السياسة بأسلوب الصدام والقمع والمواجهة لإنجاز ما أنجزه بوتفليقة بطريقة ناعمة لأسياده الإنجليز من إفساد حال البلاد والعباد على صعيد الفكر والسياسة تحديداً. والحقيقة هي أن عشرين سنة من حكمه (1999-2019م) عقِب فترة تسعينات القرن الماضي الدموية التي شهدت الجزائر خلالها صراعاً عنيفاً بين العملاء وعُصب السلطة المرتبطة بالأجنبي الأوروبي، راح ضحيته مئاتُ الآلاف من الأبرياء أغلبهم من أبناء التيار الإسلامي، كانت كافية لتكريس جميع أنواع السفالة والهبوط في المجتمع! إذ لم ينجح بوتفليقة في تكريس الفوضى والتمكين لأعداء الأمة وتبديد ثروات البلاد بتوريط محيطه وزبانيته المنتفعين وغمس كل مؤيديه وداعميه في السطو على المال العام بشتى الطرق فحسب، بل تمكن بشكل مدهش من ضرب الفكر والثقافة والتعليم وطمس الهوية وإنشاء جيل فارغ ثقافياً، أبرزُ سماته الهبوط الفكري والخواء الروحي وانعدام الوعي السياسي. وكانت النتيجة في نهاية المطاف أنه تمكن من إيصال أهل الجزائر إلى حالة مزريةٍ من الانهيار واللاوعي الجماعي، في وسط موبوء بالتفاهة والانتهازية واللامبالاة وتفشي جميع أصناف الفساد، وقد كان المبتغى من كل ذلك هو تحقيق هدف ثمين عند أعداء الأمة الإسلامية يتمثل في عزوف الناس عن السياسة والعمل السياسي على أساس الإسلام عبر علمنة الحياة في الجزائر بإبعاد الإسلام عن المشهد وإقصائه عن المعترك السياسي بشكل كامل. ولا يخفى أن الغرض في النهاية إنما هو إطالة عمر استعمارِ المنطقة وفق رغبة المستعمِر الرأسمالي الأوروبي.
2- تغييب الإسلام من المعترك السياسي يمثل قمة اللاوعي، إذ لا تحرر للمسلمين من قبضة الاستعمار الغربي إلا بدولة خلافة على منهاج النبوة.
وبغض النظر عن الجهة التي كانت وراء الحراك ابتداءً في الجزائر قبل نحو سبعة أشهر، فإن الناس ظلوا يخرجون بعد كل صلاة جمعة إلى الشوارع في مختلف المدن مُجمعين على أنه لا بد من إخفاء الشعارات الإسلامية في هذه المرحلة! وباتوا يصرون بشكل متناغم على "تأجيل الصراع الأيديولوجي" إلى ما بعد ذهاب "العصابة" ومجيء الدولة المدنية، معتبرين ذلك من الحنكة والدهاء والفطنة، غير أن الوقائع والأحداث على الأرض تنبئ بأن ثمة صراعاً على السلطة والنفوذ لا يدركه أغلب المحتجين في الشوارع، وهو في حقيقته بين طرفين كلاهما له علاقة بالأجنبي المستعمِر، أحدهما مرتبط بالإنجليز بوساطة دولة الإمارات كونها أداة من أدواتهم منذ نشأتها، وهو يسيطر الآن على كل مفاصل الدولة عبر قيادة الأركان ومؤسسة الجيش التي ظلت تمثل الثقل العسكري والسياسي في آن واحد منذ نشأة الدولة في 1962م. ويستثمر هذا الطرف بدهاء في العداء للاستعمار أي لعدو الأمس فرنسا، وفي شرعية ومكتسبات ثورة نوفمبر 1954م، ويتمثل خطابُه في مزيج من الوطنية والعروبة والإسلام (الباديسية-النوفمبرية). أما الآخر، الذي من أبرز رؤوسه وزير الدفاع الأسبق اللواء خالد نزار الذي غادر مؤخراً إلى أوروبا ولزم الصمت بعد احتدام الصراع، فتابعٌ للمستعمِر الفرنسي عبر وكلائه المرتبطين سياسياً وثقافياً ومصلحياً مع فرنسا، وهو الآن على قلة مؤيديه خاصةً في منطقة القبائل الأمازيغ في شمال البلاد يستثمر في مواصلة الحراك ويراهن على تحدي قيادة الأركان الحالية والخروج بقوة للشارع بغرض تحقيق مكاسب سياسية عبر المطالبة بإعادة بناء الدولة الوطنية على أسس جديدة بحيث تكون مدنيةً و"ديمقراطيةً حقاًّ". ولا شك أن هذا الفريق المتكتل تحت اسم "قوى البديل الديمقراطي" غرضُهُ من حشد وتوظيف أكبر عددٍ من أبناء الحراك لمواصلة التظاهر والاحتجاج خاصةً في العاصمة هذه الأيام بعدما اعتُقل أكثر رؤوسه ومدبريه الذين كانوا في السابق من المؤثرين في مختلف الأوساط خاصة السياسية والاقتصادية، ومن الموجودين في كافة أجهزة الدولة، إنما هو زعزعة السلطة القائمة وفرض نفسه في المعادلة السياسية المستقبلية بغض النظر عن مآلات ومخرجات الحراك. وقد نجح هذا الفريق في تمرير خطابه المخادع لغالبية المحتجين في الشارع حتى من أبناء الحركات الإسلامية بإبعاد الإسلام عن ساحة الصراع ومن عبارات ومطالب الاحتجاج عبر تسويق شعار "عدم أدلجة الحراك"، بذريعة المحافظة على التلاحم الشعبي، وتوحيد الصف في مواجهة النظام القائم حتى يسقط ويتغير جذرياً بإنشاء جمهورية ثانية ديمقراطية ومدنية.
إلا أن كلا الطرفين تعمَّد في أوج الانتفاضة الشعبية تبني هذا الخطاب الموجه للعامة، أعني القول بأن الشعب بعد كل التجارب السابقة بات الآن واعياً على حاله مدركاً لواقعه ممسكاً بمصيره، وذلك لكي يسهل عليه توظيفُ أكبر عدد ممكن من أبناء الحراك ومن النخب بغرض تمرير مخططه وتحقيق مراده والدفع بالأمور على الأرض لوجهته. بينما الحقيقة هي أن هذا الشعب المسلم في الجزائر لا يعرف حقيقةَ ما يريد إلا في الظاهر من خلال رفع مطالب عامة غير محددة، كالحرية والعدالة ودولة القانون ومدنية الدولة ونحوها، متجاهلاً أو متناسياً حقيقةَ هويته وانتمائه، كما لا يعرف كيف يتحقق هذا الذي يريد، إذ لا يعتبر أكثرُ أبنائه الإسلامَ نظاماً يحمل حلولاً لمعضلات البلاد، والدليل على حالة عدم الوعي هو إقصاء الإسلام من ساحة الصراع، وذلك لأن الإسلام حقيقةً إنما هو المبتدأ والخبر عند المسلمين، أو هكذا يُفترض ويجب أن يكون. إذ هو العقيدة وهو نظام الحكم وهو الهوية والانتماء ومصدر الوعي السياسي والعزة عند أهله، كما يأبى الإسلامُ إلا أن يكون عقيدة سياسيةً تنظم كافةَ شؤون الحياة. ثم إن أول ما يخسره المسلمون بإبعاد الإسلام عن ساحة الصراع هو العون والنصر من الله تعالى، فكيف يُرجى بعدئذ تحرر من قبضة الكافر المستعمِر في غياب ما انتصر به المسلمون دوماً على أعدائهم، ألا وهو التوكل على الله؟! قد يقول قائل لا تعارض بين مطلب الدولة المدنية والإسلام، إذ المسألة هي أولويات ومراحل وتكتيك سياسي فقط! والحقيقة هي أن هذه أيضاً خدعة ووهم، إذ بالحجة نفسها التي يُراد تغييب الإسلام على أساسها و"تفويت الفرصة على الغرب" لمنعه من التدخل بزعم المحتجين، يُدحض أيضاً إمكانُ تحقيق التحرر بمطلب الديمقراطية والدولة المدنية المزعومة! إذ الغرب الكافر في حقيقته إنما هو عدو مستعمِرٌ منافقٌ لا يقبل أيَّ نوع من التحرر للمسلمين في بلادهم، لا بالإسلام ولا بغيره. فهل يصح أن يتخلى المسلمون عن سلاحهم وعن مطلبهم الحقيقي الذي هو الإسلام حبل الله المتين عقيدةً ونظاماً للحياة، في دولة خلافة راشدة على منهاج النبوة، وهم في أوج الصراع الفكري وقلب المعترك السياسي؟!
بقلم الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع